مرت كتابات المستشرقين حول الإسلام عموما، وحول شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم -نبي الإسلام- خصوصا بمراحل متعددة تشترك فيم بينها بحضور الأيديولوجية الاستشراقية المعادية للإسلام والمسلمين، يصاحب ذلك تمايزا وتباينا في مدى حضور تلك الايديولوجية من حيث حدتها ومن حيث صورتها، وهو أمر غاية في الأهمية، إذ أن كثيرا من المثقفين المسلمين لم يخدعوا بكتابات أولئك المستشرقين إلا حين غير المستشرق نمط كتابته وأسلوبها وأدخل تحسينات منهجيه تمس الشكل دون المضمون.
لذلك قبل الحديث عن تلك المناهج أرى من الجيد أن نبدأ برصد وتتبع ولو بشيء من اليسر لمراحل هذه الكتابات علنا نقف على بعض ملامح تلك المناهج الاستشراقية في التصدي لدراسة السيرة النبوية.
كتابات المستشرقين حول السيرة النبوية: البواكر الأولى.
تعود البدايات الأولى للكتابات الاستشراقية حول السيرة النبوية إلى النصف الأول من القرن الثامن، حيث نجد أن القديس الدمشقي يوحنا (ت749) قد “اعتبر أن الإسلام مذهبا منشقا عن الديانة الصحيحة –المسيحية- فهو بهذا المعنى ليس إلا زندقة خارجة عن المسيحية، أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لم يكن مرسل مبتدعا جاء بكتاب موضع مختلق ساعده فيه بعض الرهبان المنشقين عن الكنيسة”[1].
كما أصدر الكاتب البيزنطي ثيوفانيس (ت818) كتاب “حياة محمد” “حشاه بالأكاذيب زاعما أن أتباع محمد كانوا من الأحبار اليهود الذين اعتقدوا بأنه (المسيح المخلص). وأن تعاليم الإسلام مستقاة من رجال التقاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من بلاد الشام وكانوا يهودا أو نصارى، فأخذ منهم بعض ما فهمه من المبادئ وحرفها، كما استطاع كسب قومه من العرب عن طريق التسامح في المحرمات”[2].
وعلى العموم فقد انصبت كل الكتابات في هذه الفترة إلى تكريس فكرة أن الإسلام ما هو إلا هرطقة منشقة عن الدين الصحيح (المسيحية)، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم شخص مرتد عن الدين الصحيح ولم يكن أكثر من مبتدع.
في عصر الأنوار.
واستمرت الأوضاع على هذا النمط لتزداد اتساعا مع عصر النهضة حيث ظهر فولتير ليحكم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكونه ضد قيم حركة التنوير، وظهر معه أيضا بريدو الذي اعتبر أن ظهور الإسلام هو في حقيقة الأمر عقوبة من الرب للمسيحيين بعد انشقاقهم… واحتدم الأمر بشكل كبير مع لامانس الذي بالغ أشد المبالغة في خلقه للشبهات والتشنيع من الإسلام والمسلمين ونبيهم مما أدى إلى وقوف كثير من المسلمين وغيرهم كدانيال وساثرون وكرومباوم… ضد اباطيله وأكاذيبه وافتراءاته.
- الاستشراق والسيرة النبوية: في عصر النهضة.
- خلال ق 18م:
ظهرت كتابات المستشرقين في السيرة خلال هذه الفترة من زمن أوربا نظرة جديدة إلى الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك راجع إلى التحرر من النزعة اللاهوتية الذي ظل مسيطرا على الفكر الأوربي ردحا من الزمن، لكن هذا لا يعني أن هذه النظرة الطارئة كانت خالية من التحيز والتشويه القديمين.
فقد ظهر سنة 1730م كتاب “حياة محمد” لدي بوليان فييه، حيث قدم صورة الرسول صلى الله عليه وسلم كرجل إصلاحي غير مسيحي، وأنه كان رجل سياسة: الغاية تبرر الوسيلة، ويسوق من أجل إثبات هذه الصفة كثيرا من البراهين التي لا تصمد أمام أي نقد متين كان أو غير ذلك.[3]
- خلال النصف الأول من ق 19م:
وهي ما يطلق عليه بفترة الرومانتيكية المتمثلة في الكاتب الاسكتلندي توماس كرليل الذي كتب كتابا سماه “الأبطال وعبادة الأبطال” والذي صدر سنة 1840م، أبرز فيه شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من خلال إنجازاته لقومه، ومن خلال أخلاقه وفضيلته، ومن خلال تسليط الضوء على عمله صلى الله عليه الكبير والمتمثل في جمعه أبناء شعبه الفقراء وتوحيدهم في قوة واحدة تصعب مواجهتها..
وهذه الدراسة وإن كانت رفضت كثيرا من الخرافات وصور المستشرقين والكتاب المنتسبين للعصور الوسطى، وإن كانت قد أعطت صورة أكثر موضوعية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم… فإن شأنها شأن باقي الكتابات الاستشراقية، فتوماس كرليل لم يعترف بالوحي والنبوة على الإطلاق، كما أنه اعتبر محمدا صلى الله عليه وسلم بطلا كباقي الأبطال الذين عرفتهم الدنيا –حسب نظره- كنابليون وروسو…
- خلال النصف الثاني من ق 19م:
تميزت هذه الفترة بظهور مادة تاريخية جيدة عن الإسلام ساعدت إلى درجة ما على توضيح الصورة أو تعديلها بالنسبة للمستشرقين، فصدر كتاب “حياة محمد وتعاليمه” لسرينجر سنة 1861م، وهو أول كتاب منظم عن السيرة، تميز بجمعه لمعلومات كثيرة عن السيرة، وهي ظاهرة تنال التقدير، لكن الكتاب تنقصه نظرة عميقة تحليلية وتفسير تاريخي مقبول وواضح لدور الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يعطه حقه على الإطلاق.
ويعد كتاب “حياة محمد من المصادر الأصلية” لوليام ميور 1861م، أكثر حظا من سابقه حيث اعتمد هذا الأخير على روايات تاريخية ذات قيمة مستقاة من مصادر عربية… ومع ذلك فإن الأمر لم يخفف من عصبية الرجل وحقده على الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يحاول تفسير الأحداث أو يقوم بتقديم رأيه الخاص.
- خلال النصف الأول من ق 20م:
ألف “بهل” بكتابا سماه “حياة محمد” سنة 1903م، وتعد هذه أطول ترجمة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغم كثرة الأخطاء الورادة فيه إلى أن أمورا جديدة لم ينتبه لها من قبله من المستشرقين، فقام بهل بقياس عظمة النبي صلى الله عليه وسلم بصبره وإخلاصه ومن خلال كونه إنسانا ذو نزعة إنسانية… وأقر معظم المستشرقين من جيل هذا القرن بهذه الفكرة رغم كثرة الأخطاء الواردة في كلامهم خلال الحديث عن تفسير هذه الظاهرة أو تلك.
وتبدو صورة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتابات الاستشراقية في هذه الحقبة أحسن –نسبيا- مما كانت عليه في عصور الأنوار، وعصر النهضة بله عن العصر الوسيط.
وفي هذا السياق يأتي الحديث عن تور أندريه وهو أسقفي على المذهب اللوثري، له كتاب “محمد: الرجل وعقيدته” صدر سنة 1932م، واعتمد أندريه في دراسته على الأبعاد السياسية والدينية لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم بمنهج أكثر استقرارا وموضوعية عمن سبقه من المستشرقين، معترقا بفضائل الرسول صلى الله عليه وسلم الإستثنائية. إلى أن هذه الدراسة كغيرها لا تخلوا من أخطاءن فقد حاول صاحبها جاهدا أن يجد ارتباطا بين الإسلام والمسيحية على غرار اسلوب مستشرقي العصر الوسيط كما حاول أن يقيم مقارنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم المسيح عليه السلام.
- خلال النصف الثاني من ق 20م:
برز في هذه الآونة مستشرقون اهتموا بالسيرة النبوية، ونالت دراستهم شهرة كبيرة بسبب نزعتها الإيجابية نسبيا، ورفضها للصورة التي رسمتها أقلام المبشرين ومن تلاهم وسار على نهجهم أحبار المستشرقين.
ومن هؤلاء مونتكمري وات الذي كتب كثيرا عن محمد صلى الله عليه وسلم، فأصدر كتابه “محمد” سنة 1957م، وقبله كتاب “محمد في بمكة” سنة 1953م، وكتاب “محمد في المدينة المنورة” سنة 1956م، كما كتب عدة مقالات في ذات الموضوع كمقالة: “محمد رجل الدولة“سنة 1961م، كما نجده كتب في كتاب “تاريخ الإسلام لكمبريدج” فصلا خاصا عن محمد صلى الله عليه وسلم،
لذلك فمونتكمري “يعتبر من المستشرقين المعاصرين التقليديين مميزا بمنهجيته التاريخية في تقويم الروايات الأصلية من مصادرها القديمة وتخليص صورة الإسلام والرسول من الشكوك والتشويهات التي بثها القساوسة والرهبان ومستشرقوا العقود التي سبقته أمثال: لامانس وغيره، كما أكد وات معتمدا على طريقة نقدية في التحليل التاريخي على العوامل الاجتماعية والبيئية لشرح إنجازات الرسول وما حققه من نجاحات مبرزا القيم والمبادئ الخلقية والإنسانية التي تحلى بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والتي كانت دافعا لسياسته صلى الله عليه وسلم”[4]
إلى أن موقف وات في دراسة الإسلام لم يرض الباحثين سواء المسلمين أو المستشرقين، فرصد الأوائل كثيرا من الهفوات والاستنتاجات البعيدة كل البعد عن روح الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لم يصل –من وجهة نظرهم- إلى الصورة الصحيحة والمتكاملة عن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. أما المستشرقون فقد اعتبروه قد تجاوز الحدود التي وصل إليها اسلافه من المستشرقين في إعجابه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الإعجاب قد أعماه –على حدود قولهم- عن العديد من المظاهر السلبية وجعلته قريبا من الصورة الإسلامية للرسول صلى الله عليه وسلم حيث أكد على عصمته وهي الأمر الذي لا يعترف به الاستشراق أبدا.
نتيجة: كما وأننا نستطيع أن نؤكد تبدل النظرة الاستشراقية في كتابات المستشرقين على مستوى المنهج والتفسير والأسلوب والعرض للسيرة النبوية، فإن الغالبية منهم لم تتمكن من التخلص من الفكر المعادي والتفسير المشوه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
[1] د.عمر فوزي، فاروق: الاستشراق والتاريخ الإسلامي (القرون الإسلامية الأولى) دراسة مقارنة بين وجهة النظر الإسلامية ووجهة النظر الأوربية، الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1998، ص 52.
[2] نفسه ص 52.
[3] نفسه ص 53.
[4] نفسه ص 59.