بعد أن تعرفنا علىٰ مفهوم أدوات البحث التربوي في المقالة السابقة؛ أصبح بإمكاننا أن نسلط الضوء مسألة غاية في الأهمية والتي تتمثل في السؤال:
هل أدوات البحث محايدة؟
علىٰ قدر أهمية هذا الموضوع في هذا الفرش المنهجي فإنّ تناوله بشكل مستفيض قد يُخرج بحثنا هذا عن مقصده وغايته، ولذلك فلا غِنىٰ عن توضيح بعض قضاياه الملِحَّة ولو بشكل موجز يفتح آفاق التفكير والبحث أكثر مما يُقدِّم إجابات ومعطيات جاهزة.
إنْ خرجنا عن الدائرة الأوسع التي وضعنا فيها الأدوات المنهجية وأدوات البحث؛ أي أدوات جمع البيانات، فقد نتفق إلىٰ حَدِّ ما أنّ تلك الأدوات من حيث أدبياتها الأولية محايدة وموضوعية، ولكن؛ إذا ما تعمّقنا أكثر في دقائقها وتفاصيلها فقد نجد أنّ الأمر ليس كذلك، وستكون النتيجة أكثر وضوحا إذا عُدنا لدراسة هذه الأدوات في سياقها المنهجي العام؛ أي الدائرة الأوسع لمفهوم الأدوات المنهجية.
ولنبدأ بالأدوات المنهجية الفكرية، فإن أخذنا المنهجية الإسلامية[1] في التفكير، نجدها تضع في أول قائمة مصادرها الكتاب والسنة، فتنضبط بضوابطهما وقيمهما وتوجيهاتهما، بينما لو انتقلنا إلىٰ منهجية تعتمد الفلسفة الوضعية في تفكيرها، فلن تبحث هذه إلا فيما يُشاهد ويُسمع ويُلمس، بمعنىٰ أنها ستُقصي من دائرة بحثها كل المعطيات ذات علاقة بالغيبيات، فكيف بإدراج مثل هذه المعطيات ضمن متغيرات البحث -مثلا-؟
ومن جهة أخرىٰ إذا سلَّمنا أنّ كُلاًّ من المنهجيتين –الإسلامية و الفلسفية الوضعية- اتفقتا علىٰ استعمال إحدىٰ أدوات جمع البيانات واتفقتا علىٰ خطواتها ونوعية الأسئلة المتضمنة فيها… وقمنا بعد الحصول علىٰ البيانات بتوزيعها علىٰ الفريقين، فهل ستتفق طرق تحليلهما لهذه البيانات؟ بل هل من الممكن أن تتفق تفسيراتهما للنتائج المحصل عليها؟
وأخيراً لو أراد كلٌّ من الفريقين إنجاز بحث حول: “علاقة القتل وسفك الدماء بدين الإسلام” وتمَّ الاتفاق علىٰ الاستبيان كأداة لجمع تمثلاث مجتمع البحث وعيِّنته حول الموضوع، فمن دون شك ستختلف طبيعة الأسئلة التي سيضعها كل فريق، بل سيختلف عنوان الاستمارتين ورسالتهما التحفيزية اختلافا كبيرا، فإحداهما ستستعمل مصطلح الإرهاب وستضع السؤال: هناك علاقة بين الجهاد وميول المسلمين نحو الإرهاب: صحيح أو خطأ. بينما ستستعمل الاستمارة الأخرىٰ مصطلح العدوان والظلم وقتل النفس وستضع السؤال: هناك علاقة بين الظلم والقهر الاجتماعي والميول نحو العنف: صحيح أو خطأ، ولا نحتاج هنا –بالطبع- إلىٰ التصريح عن أي الفريقين صدر الاستبيان الأول وعن أيهما صدر الثاني، فالجواب لا يحتاج إلىٰ عناء.
وكما أشرت في بداية هذا الموضوع، فإنّ هذه مجرد لمحات وإشارات حول الموضوع تُحفز علىٰ البحث والدراسة، وتُحدث نوعا من الوعي المنهجي حول بعض القضايا التي غالبا ما يتم تجاهلها أثناء دراسة قضايا مناهج البحث، والمأمول أن يسعىٰ زملائي الأساتذة المتدربون إلىٰ إدراك هذه الجوانب والوعي بها واستثمارها سواء أثناء تعاملهم مع بحوث تربوية تمّ انجازها أو أثناء إنجازهم لبحوثهم التربوية.
- أهمية أدوات البحث والحاجة إليها:
من المؤكَّد أنّ أيَّ بحث تربوي إجرائي/تدخلي/ميداني… إنما يبدأ بمشكلة يطرحها ويسعىٰ جاهداً إلىٰ حَلِّها وفهم حقيقتها وأسبابها وعلاقاتها… وتختلف طرق البحث وأساليبه ومناهجه باختلاف طبيعة إشكالاته والحقل المعرفي الذي تنتمي إليه.
وبِوَصف التربية مجالا من مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية فإنّه “من البديهي [أن نُذكِّر ها هنا] أنّ الظواهر الاجتماعية والإنسانية والحقائق التي تُعبر عنها لا يستطيع الباحث الإمساك بها في ذاتها أو تقليبها أمام عينيه لتفكيكها وتحليلها من أجل فهمها والتعامل معها وتطويعها إلاَّ من خلال أدوات ووسائط وآليات وأساليب ووسائل وتكنيكات بحثية ومنهجية”[2]، وهنا تتبدّىٰ لنا أهمية أدوات البحث (أدوات جمع البيانات) في المجال التربوي، فحين يقف المدرس (الباحث) أمام ظاهرة تربوية لفَتَت انتباهه وأراد البحثَ فيها والاشتغال بحلها… سيجد نفسه في مرحلة من مراحل بحثه في حاجة إلىٰ قدر غير بسيط من المعلومات حول الظاهرة المدروسة، والتي لا سبيل للحصول عليها إلا من خلال أدوات جمع البيانات.
ولا يَحْسُن بنا أن نغفل تنبيه الباحثين إلىٰ أنّ “البحث الرصين لا يتكوَّن من اللعب بالأدوات التي يَنتج عنها كومة غير ذات معنىٰ من البيانات، مما يوجب [علىٰ الباحث] اختيار الأداة المناسبة للبحث عن المعلومة المستهدفة […] حيث يُعَدُّ جمع المعلومات حجر الزاوية في البحث العلمي”[3]. ولهذا فإننا لا نكون مبالغين –إذن- إن قُلنا: إنّ اختيار الباحث للأداة البحثية المناسبة لجمع البيانات يُشكِّل إحدىٰ كُبرىٰ التحديات التي ستواجهه أثناء إنجاز بحثه، فاختيار الأداة تتوقف عليه أمور عديدة لاحقة ترسم مسار البحث وتأخذ بيده إلىٰ نهايته التي ستعطيه قيمته التي يستحقها. وبناء علىٰ ذلك؛ فإنّه لا غِنىٰ للباحث (المدرس) عن التعرف علىٰ هذه الأدوات وأساليب استعمالها وتقنيات إعدادها وطبيعة البيانات التي تُستعمل في جمعها حتّىٰ يستعملها الباحث عن عِلمٍ وبيِّنة. وتجدر الإشارة إلىٰ أنّ الإلمام النظري بهذه الأدوات، سيظل قليل الفائدة إذا لم تُصاحبه ممارسة وتدريب علىٰ الإعداد والاستعمال مما يُكسب الباحث مهارة في إنجاز بحوثه وإعدادها.
[1] نشير هنا إلىٰ ما يُمكِّننا منه علم أصول الفقه لتشكيل منهجية إسلامية في التفكير والبحث.
[2] عبد الفتاح؛ سيف الدين. “المنهجية وأدواتها من منظور إسلامي”، بحث مقدم للندوة الدولية حول المنهجية الإسلامية من تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومركز الدراسات المعرفية.
[3] “البحث التربوي للمعلمين والمعلمات”، مصدر سابق ص 87.