والدي الحبيب؛ أنا مُمتنٌّ، وهذه رسالتي للآباء

نصيحة للآباء بمناسبة الدخول المدرسي

0 تعليقات 413 مُشاهدة 3 دقائق قراءة

الفصول

لا توجد فصول متاحة.

نصُّ المقال:

اقتحمَ حسابي علىٰ الفيس بوك إعلانٌ تسويقيٌّ عن خِدمة اقتناء الأدوات المدرسيَّة “أونلاين” مع توفير خِدمة التَّوصيل المجَّانيِّ إلىٰ المنزل، توقَّفتُ مليًّا عندَ هذا الإعلان المُمَوَّل، وأحسستُ بحسرةٍ وأسفٍ شديدَينِ علىٰ ما أصبحنا عليه، ولم أحس بنفسي إلَّا وقد عادت أدراجها إلىٰ الزَّمن الجميل، حيثُ طابور الآباء والأمَّهات يقفون مع فلذات أكبادهم، وبأيديهِم أوراقٌ صغيرة وأخرىٰ متوسِّطة طُويَت بشكلٍ مُربَّع وكُتبت عليها باللَّون الأزرق المُستلزمات الدِّراسيَّة.

تذكَّرتُ رائحة الكُتب والأدوات المدرسيَّة، تذكَّرت الحركيَّة التي كانت تموج بها المكتبةُ إلىٰ غاية مُنتصف اللَّيل أو أكثر، فكمٌّ كبيرٌ مِنَّا كان ينتظِرُ عودةَ أبيه من العمل مساءً أو ليلًا ليصحَبهُ للمكتبة، كُنَّا نفعل ذلك ونحن لا ندري هل اصطحب أباؤنا معهم المال اللآزم أم اصطحبوا معهم الكلمة الثَّقيلة نفسَها: “دوِّنها عندك الله يرحم الوالدين”، ولا شيءَ يجعلها مُستساغةً إلَّا الرَّجاء الآتي، والمُستقبل القادِم لا محالة: “إن شاء الله دابا ابني يقرَا ويْولِّي دكتور، أستاذ، طبيب، مهندس….”

عادت إليَّ صورة أعناق الأطفال وهم يشرئبُّون إلىٰ المكتبة، ويُجيلون نظَرهُم في الأدوات المدرسيَّة، هذا دفتر الفهد وهذا السندباد وذاك الكتبية… وكنَّا نحن تلاميذ الابتدائي نأملُ حينها أن نكبُر ليكون لنا حظٌّ مِن الدَّفاتر الكبيرة 300 أو 200 صفحة ودفاتر الأعمال التَّطبيقيَّة ودفاتر الفيزياء…

وها هي الأحاسيس تعود إليَّ الآن، أحاسيسُ قبضتي الصَّغيرة علىٰ يدِ الوالدِ -رحمنا اللَّٰه وإيَّاه-، ويقف أماميَ الآن مشهدٌ لا أنساه ما حييت، ذاك أنَّ شوقي وحماسي الذي صاحبني حين اقترب موعد الذَّهاب إلىٰ المدرسة “الكبيرة” في المُستوىٰ التَّحضيري (أوَّل ابتدائي)، دفعني إلىٰ استعجال الحصول علىٰ الكُتب المدرسيَّة، والمكتبات حينها لم تُفتح بعد، فما كان منِّي إلَّا أن ذهبتُ إلىٰ صديقي الذي يكبرني وانتقل إلىٰ المُستوىٰ الثَّاني لأطلُب منه كتُبَه التي لم يعُد بحاجة إليْها، فعَرَضَ عليَّ أن أبتاعها منه فهيَ في حالةٍ جيِّدة وتصلح للدِّراسة فيها في القسم.

عُدتُ مسرِعًا للبيت، وألححتُ في طلبي فلُبِّيَ الطَّلب، اشتريتُ الكتب، وضعتُها في كيسٍ بلاستيكيٍّ، وعكفتُ علىٰ تصفُّحها، وتأمُّل صورِها، ولمسِ غلافها… رجعَ والدي -رحمنا اللَّٰه وإيَّاه- للبيتِ وجد بيدي الكتب، مُقترِبًا مِنِّي وحامِلًا الكُتب بيديه قال: لِمَن هذه؟ قُلت: ابتعتها مِن صديقي فُلان. أخَذها بين يديه وجمعها من جديد في الكيس البسلاستيكيِّ نفسِه، وقال: ” أنا نشري لولدي الكتوبا ديالو باقي جدادين هيدا (وأشار بيديه بعلامة الجديد المعهودة في ثقافتنا)” ثمَّ قال: أعِدها إليه بُنيَّ.

حزِنتُ كثيرًا، لكنَّ أبي لم يخلف معي موعدًا قطّ، فقد كانت المسألة مسألةَ وقتٍ وهذا الوقت هو الذي لا أستطيع له صبرًا. لم يكُن بالوُسعِ إلَّا الطَّاعة ففعلتُ ما طلب.

وجاء يوم الذَّهاب للمدرسة، ويوم اقتناء الأدوات، ويوم تغليف الكتب، وتنظيم المِحفظة، وترتيب المقلمة… لستُ أذكر تمامًا التَّفاصيل لكن ما هو راسِخٌ في ذاكرتي وفي وجداني: شموخُ أبي وهو يرافقني لمكتبة سي محمد المفتاح، لا أزال أذكر وقفته علىٰ الطاولة الأمامية، لا زلت اذكر مزاحه مع الرَّجل الذي تدمعنا به علاقة الجار بالجار، وفجأةً يقول والدي: “سي مُحمَّد، شوف وليُّ العهد آش خصُّو”، رفعتني الكلمة “وليُّ العهد” إلىٰ الأعالي، أحسستُ بفخرٍ لستُ أنساه، وما زاد هذا الشعور ترسُّخًا في نفسيَ الصَّغيرة أنَّ صاحبَ المكتبةِ فسح لي المجال للدُّخول إلىٰ المكتبة وأختار معه بنفسي ما أريده.

لم أكُن حينها أعلمُ الأثقال التي يحملُها أبي، لكنَّني رأيتُ أبي ينظُر إليَّ وأنا أجمع مُستلزماتي ويبتسِمُ ابتسامَته المعهودة، جمعتُ المُستلزمات وخرجتُ من المكتبة، بقيَ رحمه الله واقفًا وأنا إلىٰ جنبه وهو يضمني إليه وطولي لا يتجاوز فخذه، إلَّا أنه كان يضمُّني بقوَّة، ضمَّةً لستُ أنساها، جُمِع الحساب، وقيل الثَّمن، وقال أبي: “سْجْلها عندك”.

في طريقِ العودة؛ حمل بي الأكياس “الثقيلة”، نظرَ إليَّ ورأىٰ عيناي علىٰ الأكياس ففهمَ ما بِنفسي، توقَّف رحمه الله وأخرج المحفظة ووضع فيها بعض الكُتب، وضبط أحزِمتها وأدارني ووضعها علىٰ ظهري بابتسامته الرطيبة، ثُمَّ أدارني إليه من جديد ونظر إليَّ من جديد نظرةً استغرقتني في حاضري ورأتني في مُستقبلي، آآآآآآه من تلك الابتسامة يا والدي، ثُمَّ أشار للكيس المُتبقِّي وقال: وهذه ثقيلةٌ عليك أم تحمِلُها؟ قُلت: بل أحمِلُها، فضحك هذه المرَّة وأعطانيها.

لم أكُن أعلمُ أثقال أبي، ولكنِّي علمتُ حينها أنَّ أبي يفخرُ بي، وأنَّ له وقتا مِن أجلي، أنَّه يُحبُّ دراستي، ويُحِبُّني، إنَّه معي علىٰ أيِّ حال…

عُدتُ إلىٰ الإعلان التَّسويقيِّ، أنظر فيه إلىٰ أبٍ يشكو من قِلَّة الوقت، ومِن ازدحام المكتبات، ثمَّ قدَّمت له المكتبة الحلَّ تسوُّقًا وتوصيلًا، فقلت: هل يعلمُ هذا الأبُ ما يُفوِّتُه؟ كيف ستكون فرحةُ الأبناء بالمُستلزمات الدِّراسيَّة في غياب مشاعِر الصُّحبة والمُرافقة الأبويَّة؟…

رسالةٌ إلىٰ كُلِّ الآباء والأُمَّهات:

إن لم تُصاحِبوا أبناءكم اليوم، فلا تُعاتِبوهم في الغد.

رسالةٌ إلى والدي: أنا مُممتنٌّ.

والدي الحبيب
نشرته جريدة الشَّمال

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00