أيها المعلم الجديد؛ افتحِ الصُّندوق الأسوَد للمُتعلِّم

سلسلة نصائح للمدرِّسين الجُدد

0 تعليقات 186 مُشاهدة 3 دقائق قراءة

الفصول

لا توجد فصول متاحة.

نصُّ المقال:

أيُّها المُعلِّم الجديد، مهما علَّمتك الأيَّام، ومهما نضجت تجربتُك في علاقاتك بالأنام؛ اِعلم أنَّك لا ترىٰ مِن تلاميذك سوىٰ ثُلثَهم، أمَّا الثُّلثان الباقيان؛ فهُما قابِعان في دواخِلهم، وفي مَكْنونات أنفُسهم، لا يعلمُهما كثيرٌ ممَّن حولهم، فليس بالبعيد أن تتفاجأ أحيانًا كثيرةً بما ستكتشفه في تلك الدَّواخل، مِن أحلامٍ، ومطامح، تراهُم من خلالها أجمل صورةٍ لأنبلِ إنسانٍ. ولذلك؛ ضع في حُسبانِك دومًا أنَّه واردٌ أن تُحسُّ بتأنيبِ الضَّمير إن أنتَ تسرَّعتَ يومًا فقسَوت، أو صددتَهم مرَّةً إن هُم معتذرين أتوك، وستتمنَّىٰ أيُّها المُعلِّم الجديد لو عاد بك الزَّمن لتتصرَّف معهم بطريقةٍ أخرىٰ، لرُبَّما ستكون أحنّ، وأرقّ.

ولهذا؛ أجزمُ لك أنَّ هُناك ما يُشبه الصُّندوق الأسوَد للمُتعلِّم، وأن تكون مُعلِّمًا بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معنىٰ؛ يقتضي مِنك أن تتقنَ فنَّ الغوص في أغوار أنفُسهم، فينفتح أمام عينك جليًّا ذلك الصُّندوق، أو علىٰ الأقل تلمحُ إرهاصاتٍ تدلُّك علىٰ ما بداخله، واعلم أنَّ هذا سيتطلَّبُ منك جهدًا متواصلًا حتَّىٰ تُنمِّي في داخلك مهارات التَّنبُّؤ والاستبصار بما قد تخفيه النفوس من أحوالٍ وأحلامٍ وأوضاعٍ…

لقد علَّمتني تجربةُ التَّدريس؛ أنَّ مِن مؤشِّرات بَوْن المسافة بين المُدرِّسِ وبين التَّعليم، ومن آليات قياس حجمِ الفجوة بينه وبين التَّعليم، هو عدد المراتِ التي اضطُرَّ فيها للكشف عن خبايا هذا الصندوق، لكن للأسف الشديد بعد أن تقع الكارثة، تمامًا كما يحصل مع الطَّائرات بعد أن تسقُط مِن السماء، ويفنىٰ مَن كان بها من الرُّكاب. فوا أسَفاه أن يفتح المدرِّس هذا الصندوق بعد أن يحصل منه ما لا يليق به، فيكون سببًا من أسباب انهيارِ الأحلام، وكسرِ الخواطر، ووضع الحواجز.

أذكُر مرَّةً أنَّ أحدَ التَّلاميذ لمحتُه يُجري مُكالمةً هاتفيَّةً داخل الفصل الدِّراسيِّ، وكان التلميذ يجلس في آخر طاولات القسم، كان مَشهدُه مُضحِكًا حقًّا، وهو يحاول أن يختبئ تحت الطَّاولة ليحدِّث مَن معه علىٰ الهاتف، اضطُررت لأخذ هاتفه، واحتجازه، ما أثارني أكثر أنَّه يقول: أستاذ لستُ أنا؟ أسمع أنا هذه الكلمة منه وأقول لعيني: أهو الذي كان يتحدَّث؟ تُجيبني عيني: نعم؛ إي والله، إنَّه هو.

أحسستُ أنِّي مَحطَّ استخفافٍ واستغفالٍ من طرف هذا التِّلميذ، فأسرعت للهاتف وضربتُ به عرض الحائط، وقف التِّلميذُ مصدومًا مِن هولِ ما رأىٰ، لم ينطق ببنتِ شفة، فقط توجَّه لمقعده بعد أن أخذ هاتفه، ولا أخفيك يا صديق، كم كانت نبضات قلبي متسارعة، وأحسستُ أنِّي أتصاغر أمام هذا التلميذ، إذ لم تصدر عنه أيّة ردَّة فعلٍ مُشينة، فقط نظرَ إليَّ وطأطأ رأسه وعاد إلىٰ مكانه.

عُدت أنا لدرسي، ولم يكن درسًا بقدر ما كان إملاءً لمضامين الدرس، يعلو القسمَ صمتُ القُبَّرات، وتعلو مُحيَّا التلاميذ نظرات الاستغراب والخوف… كانت لحظةً طويلةً كالأزل سريعةً كالأجَل، لم أتمالك نفسي اتَّجهتُ إلىٰ التِّلميذ أقول له: كيف لست أنت؟ وأنت أنت؟ تحمل بيديك، وتضعه علىٰ أُذنك، وتتحدث فيه بلسانك؟

نظر إليَّ وقال ما كان هذا قصدي، إنَّما قصدتُ لم أكُن أنا المُتَّصل وإنَّما أمِّي التي اتَّصلت، طلبت مني صباحًا أن أجيبها إن هيَ اتَّصلت بي. آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه، أسقِطتُ أيّها المُعلِّم الجديد في يديَّ. استدرتُ للسبُّورة، وتجول في راسي آلاف الاحتمالات عن سبب هذا الإلحاح من الأم أن يجيبها ابنُها، وجالت في رأسي صورةُ أمِّي -رحمها الله-، ذرفت عينُ قلبي، وتغيَّر حالي، ثم اغرورقت عيني، محاولًا تجاهلَ كلِّ هذا.

لمَ لَم أسأله عن مَقصده؟ لِمَ لَم أعطه فرصةَ الشَّرح والبيان؟ ولم ألفُ لمَ؟

في نهاية الحصة، استفردتُ به أستفسره، فإذا بالحالة فعلا تستدعي ذلك، فتجرَّعتُ حينها المرارةَ أضعافًا، وكانت تلك بداية علاقةٍ جديدةٍ مع التِّلميذ، واكتشفتُ فيه رجُلًا أنبلَ رجلٍ يمكن أن يكون. وتستمرُّ العلاقة ويتحصَّل علىٰ الباكلوريَا ويُنهي تكوينَه المهني في مجال الكهرباء، ويتَّصل ليُزفَّ البُشرىٰ، ودار الحوار التَّالي:

-أنا: والآن؟

-هو: لستُ أدري لكني سأبحث عن شيءٍ ما أفعله،

-أنا: هل بإمكانك أن تستمرَّ عِصاميًّا؟

-هو: كيف؟

-أنا: اشتري من أدوات وأجهزة وابدأ مسيرتك في الإصلاح الكهربائي.

-هو: (أووووووووووو، واعرة هادي أستاذي) أوووووو هذه رائعة، فقط لو أعلم كيف أتحصَّل علىٰ راس المال.

-أنا: كم يتطلب الأمر؟

-هو: 6000 درهم لأبدأ (طوووووووب)

-أنا: ضاحِكًا، يا سلام علىٰ سي الطوووووووووووووب، غدا أتصل بك.

بادرت إلى بعض المحسنين، وجَّهوني لأحد المحلات، صاحبت التلميذ الذي أصبح مهنيًّا حُرًّا، أخذ ما أراد، أخبرته أنَّ عليه أن يردَّ المبلغ، (لم يتفق المحسنون علىٰ هذا) فقال: أفعل. بعد سنة ونصف يتَّصل ليُعيد المبلغ، اصطحبته إلىٰ حيث تُباعُ الدَّراجات النارية، اشترىٰ واحدةً بعد أن أضاف الفارق، وقال: والله كان التَّنقل يأخذ حصةً كبيرةً من محصولي.، ويرهقني في الوصول للبيوت في الأزقة.

منذ ذلك الوقت، وأنا أقول الصندوق الأسود، افتحه يا عبد الجليل قبل الكارثة.

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00