في البدء؛ كانت اقرأ ولم يكُن الكتاب

سلسلة تأملات في فقه التربية والتعليم

0 تعليقات 32 مُشاهدة 4 دقائق قراءة

نصُّ المقال:

الحدَث:

اقرأ، ما أقرأ؟ اقرأ، ما أنا بقارئ! اقرأ، لست أقرأ! ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق:1-5]، “وفي كُلِّ مرَّةٍ كان جبريلُ -عليه السَّلام- يأخُذُنِي فَيُغَطّينِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ”.

هكذا حكىٰ لنا عن تلك اللَّحظة، إيَّاك أن تقرأها بصوتك، صَهٍ يا صديق، قف للحظة، تنفَّسِ الصُّعداء، أغمض عينيكَ رجاءً، واسمعها مِن فمه العطِر، ولهيبة المشهدِ أُعفيك من النَّظر لعينيه السُّبحانيتين، ولكن؛ لا تُسقط عينيك عن كتِفيه تُحدِّثك عن عبءِ هذه الكلمة “اقرأ”.

التَّعليق:

تعوَّدنا الحديثَ عن اقرأ، في المحافل العِلميَّة، في البرامج الإذاعيَّة والتَّلفزيَّة، في الفصول الدِّراسيَّة، في الخُطب المنبريَّة… دائِمًا هُناك حديثٌ عن اقرأ. وبقدر ما أنَّنا لم نملّ بعدُ من هذا الحديث؛ بقدرِ ما أنَّنا لم نستفِد بعدُ من دلالات ذلك الفعل “اقرأ”.

لكثرة ما ردَّدنا أنَّ اقرأ قد أرَّخَت لتلك اللَّحظة الفارِقة في حياةِ محمَّدٍ -ﷺ- وفي حياةِ البشريَّة جمعاء إذ أعادت وصل الأرض بالسَّماء؛ (لِكثرةِ ما ردَّدناها) أصبحَت بمثابة لازِمةٍ نَطربُ لها ونتغنَّىٰ بإعادتها علىٰ نحوٍ مكرورٍ لا يكادُ يحمِل في طيَّاته جديدًا يجعلُنا نُفكِّر بجدٍّ في فعلِ القراءة.

واختُزِل الأمرُ في وصفِ واقع الحال فقيل: أمّة اقرأ لا تقرأ، وضاع مع كُلِّ هذا طرح السُّؤال: لماذا لا نقرأ؟ وحين انتبهنا له وجدناه -للأسف- قد أصبح سؤالًا باهتا فَقَد بريقَه، ولم يعُد يُثير ذلك الفضول المُنتظر، أمَّا إذا حاولتَ الإجابة عنه؛ فهي محاولةٌ -غالبًا- ستُصيبك بخيبةِ أملٍ كبيرة، إذ إنَّ هذا الموضوع قد أصبح خارج الاهتمامات السَّائدة، فالقراءةُ وِفق معادلة اقتصاد السُّوق (العرض والطَّلب) لم تعُد ضمن قائمة الأشياء الأكثر طلبًا، خصوصًا في السُّوق الأكبر؛ سوق وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ.

وبناءً عليه؛ ليس مِن الـمُبالغة القول: إنَّ مصير هذه التَّدوينة لن يُخالف مصير مثيلاتها، أي؛ تدوينات الإجابة عن أسئلة القراءة في واقعنا المعاصر، بل إنَّه لَيَكفي سببًا أن تكون القراءةُ موضوعَ تدوينتِك، أو مقالتِك، أو مُحتواكَ الرَّقميَّ؛ حتَّىٰ تجنِيَ أقلَّ نِسب التّفاعُل، والتَّشارُك، والتَّثاقُف في هذا الفضاء.

تردَّدت في الكتابة في الموضوع، للأسباب التي ذكرتها، وكلَّما تفكَّرتُ في الأمر أجدُ أنَّ التَّمثُّلات السَّائدة عن موضوع القراءة أصبحت راسخةً في الأذهان، مُتجذِّرةً في الوجدان، وكأنَها استحالت صنَمًا ليس من السَّهل تقويض دعائمه، وعلىٰ ذكر الأصنام أذكُر مقولة مالك بن نبيّ: “حيثُما وُجِد الصَّنم غابتِ الفكرة”، مِمَّا يعني؛ أنَّ الأصنام لا تلتقي البتة والقراءةَ.

هكذا وفجأةً ودون إرادةٍ منِّي وجدتُني أعيدُ التَّأمُّلَ في الموضوع لكن هذه المرَّةَ في ضوءِ التَّجربةِ المُحمَّديَّة، ممَّا يعني أن ننتقل إلىٰ اللَّحظة الأولىٰ التي نزلت فيها اِقرأ، أن نعود إلىٰ تلك اللَّحظة التي لا يُمكنُ تجاوُزها بحالٍ، ووجدُتُني أحاول أن أضع هذا الحدَثَ في سياق بيئته التي حدثَ فيها، وأن أقرأه في ضوء العقل الجَمعيّ الذي كان سائدًا في المُجتمع العربيِّ آنذاك.

قبل الغار وقبل التَّحنُّث، كان ثمَّة رجلٌ لا يقرأ ولا يكتُب، شأنُه في هذا شأن غالبيَّة قومه، يبدو أنَّ القراءة -كما اليوم- لم تكن ضمن أولويَّات سُكَّان منطقته، هذا علىٰ الرُّغم مِن فصاحتهم وتخليدِهم إرثًا أدبيًّا عظيمًا، إلَّا أنَّ اهتمامهم كان في الغالب الأعمِّ ينحو منحًا آخر، منحىٰ الظُّهور والبروز في نوادي القوم ومواسمِهم كسوق عُكاظ وغيره… لقد كانت تلك بمثابة فُرصٍ ثمينةٍ للوصول إلىٰ “الترند” وكانت بطريقةٍ ما تعني موعدَ المؤثِّرين مع “البوز”.

في مثلِ هذه الأحوال، تُحكِمُ الأصنامُ قبضتها عن طريقِ العقل الجمعيِّ، الذي يُعطِّلُ العقل المُتسائل والنَّاقد؛ فتغيبُ الفِكرة، ويبقىٰ الجمود سيِّدَ الموقف، وأيُّ دعوةٍ إلىٰ التَّفكُّر تعني بالضرورةِ إخضاع العقل الجمعيِّ للفحص والمُراجعةِ والتَّقويم، وهو ما يحتاج بكلِّ تأكيدٍ إلىٰ قراءةٍ مُتفحِّصةٍ للواقع، والنَّتيجةُ المؤكَّدة لهذا الفعل هو ميلادُ فكرةٍ جديدةٍ، وهذا ما لا تقبله الأصنام بحال، إذ تُهدِّد وجودها وتُفسد عليها بيئتها الحاضنة لها، ﴿بَلۡ قَالُوۤا۟ إِنَّا وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةࣲ وَإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ﴾[الزخر:22].

أعتقدُ أنَّه لا يجب إغفال كُلِّ هذا ونحنُ نعيدُ قراءةَ تجربةِ الغار هذه، إنَّ هذه الكلمةَ “اقرأ”، في ظلِّ هذا السِّياق لتُنبي عن عبئٍ ثقيلٍ، أن تدعوَ مكَّةَ للقراءة يعني أن تدعُوها لشيءٍ لا قيمةَ له في سوق الرَّواج، دون أن ننسىٰ أنَّها تاجرةٌ بامتياز، وأن تدعوَ مكَّة للقراءة يعني أنَّك تُصوِّبُ العقلَ اتِّجاه الأصنام، لا لأجل أن يسجُد لها، وإنَّما ليُسائلها، فهل تُريد مِن الأصنام أن تُجيبَ يا صديق؟ هل باستطاعتها أن تنافح عن نفسها؟ الأصنام صامتة يُناسبها العقلُ الصَّامت، لكن هل قرأت يومًا سطرًا واحدًا دون أن يتحدَّثَ عقلك؟

هكذا فهمتُ من جديد، لماذا لم تنزِل في البداية: صلِّ يا محمد -صلَّىٰ الله عليكَ وسلَّم-، لم تنزِل صُم، ولم تنزِل وحِّد الله ولا تُشرك به شيئًا، بل نزل جبريلُ -عليه السَّلام- آمِرًا النَّبيَّ محمَّدًا -ﷺ- النَّبيَّ الأمِّيَّ المُعتزِلَ في ذلك الغار بأن يقرأ!

والآن، اُنظر إلىٰ الهاتف الذي أنت بين يديه، راقب رقَبتَك المُنحنيَّة، عينيك المُركِّزة الشَّاخصة، أُنظر إلىٰ سبَّابتك؟ لاحظ أنَّك أيضا لا تلتفتُ يُمنةً ولا يُسرة، ولا حِظ مقدار توحُّدك وتماهيك مع ما تُشاهده وتتصفحُّه.

هل يُذكِّرك هذا بشيء؟ أن تقف بين يديه؟ أن تنحني رقبتُك حتىٰ تضع جبهَتك علىٰ الأرض خضوعًا له؟ أن تركِّز نظرك إلىٰ موضع سجودك؟ أن ترفع سبّابتك تشهُدًا له؟ أن لا تلتفت؟ أن تخشعَ له سُبحانه؟ يا صديق، وأنت في هذا السُّوق ذي الفضاء الأزرق، والأحمر، والأسود… راقب جيِّدًا الرَّائج فيه؟ راقبَ موضِع الصَّنم فيه.

أحدِسُ أنَّك تنتبهُ الآن أنَّك انتبهتَ للصَّنم، وأصبحت تُدرك جيِّدًا أنَّه صنم، هل تدرِ لم؟ لأنَّك فقط قرأتَ؟

الكاتب في سطور:

فهرست المقالة:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00