مقدمة
بين الحين والآخر؛ يُعلَن عن مشاريع جديدةٍ لإصلاح المدرسة المغربيَّة، كما لو أنَّ كُلَّ إصلاح يُولَد من رحمٍ غير الذي وُلِد منه الآخر، أو كأننا أمامَ مُتواليةٍ من البدايات المتكرِّرة التي لا تريد أن تنتهي.
في هذا السياق؛ أقف في هذه المقالة عند ما عرف بالمدرسة الرائدة والمدرسة الجديدة، من خلال وثيقتَين مُهمَّتين صدرتا سنة 2024 عن المجلس الأعلىٰ للتَّربية والتَّكوين والبحث العلمي:
- الوثيقة الأولىٰ: تقرير المدرسة الجديدة. (اضغط للتحميل)
- والوثيقة الثَّانية: تقرير التقييم الخارجي للمرحلة التجريبية لمشروع المدارس الرائدة. (اضغط للتحميل)
ولن تكون وقفتيَ الآن ذات مسلكٍ علميٍّ أكاديميٍّ بقدرِ ما ستكون مُحاولة لإثراء النِّقاش الذي أثارته الوثيقتَين، ولذلك تجدون هذه المقالة في تصنيف قضايا رائجة عامَّة، وستكون لنا عودةٌ للنقاش العلميِّ حول نفس الموضوع في تصنيف قضايا التَّربية والتَّعليم.
اللَّافتُ للانتباه أنَّ المدرسةَ المغربيَّة في الوثيقتَيْن لا تنتميان إلىٰ نفس المستوىٰ المؤسَّساتي، هذا ما يجعلُ المقارنة بينهُما تكشف الكثيرَ عن طبيعة المشهد الإصلاحيِّ للمنظومة التَّربويَّة المغربيَّة، كما تكشف عن ضبابيَّةٍ كبيرةٍ في ملامح المدرسة التي يُراد بناؤها لهذا البلد الأمين.
إنَّ تقرير “المدرسة الجديدة” وثيقة استراتيجيَّة أصدرها المجلس الأعلىٰ للتَّربية والتَّكوين، تدعو إلىٰ تحوُّلٍ جَذري في رؤية المدرسة المغربيَّة، من خلال سبعة رهانات كُبرىٰ، منها: الاستقلالية، والحكامة، والقيادة المحلية، والارتباط بالمجتمع، وإعادة النظر في النموذج البيداغوجي، وكُلُّ ذلك ضمن منظورٍ نسقيٍّ يروم تجاوز التَّجزيء القطاعي، وتحقيق الاندماج بين مُكوِّنات المنظومة التربوية.
أمَّا تقرير “التقييم الخارجي للمدارس الرائدة”، فيقدّم قراءةً دقيقةً لمستوىٰ أداء المؤسَّسات المشارِكة في المشروع التَّجريبيِّ للمدارس الرائدة، والذي أطلقته بالفعلِ وزارة التربية الوطنية لتحسين الكفايات الأساسية لدىٰ المُتعلِّمين، خاصَّة في اللُّغة والرياضيات، عبر اعتماد مقاربَتي TaRL والتَّعليم الصَّريح. وقد كشف التَّقييم عن مكامن القوة والضعف، وعن تفاوتات مجالية، وصعوبات في التَّأطير والموارد والبنيات…
إذن؛ فنحن نتحدث عن إصلاحَين للمدرسة المغربية في نفسِ الوقتِ والآن:
- أحدُهما طُبِّقَ تجريبيًّا في أرض الواقع، وضُخَّت في تنزيله ميزانيَّةٌ كبيرة، وبُذلت فيه جهودٌ عديدة، وأخذ من وقتِ الإصلاح المُفترض في ظلِّ الرُّؤية الاستراتيجيَّة حيِّزًا زمانيًا لم يعُد بالوُسع تداركه بسهولة.
- والثَّاني تدعو إليه هيئةٌ دستوريَّة تُعنىٰ بتقديم الاستشارات في مجال التربية والتعليم، وما فتئت هذه الهيئة تُنادي بإصلاحات شموليَّة ذات نَفس وبُعد استراتيجي، حتَّىٰ تقطع المنظومة مع الإصلاح وإصلاح الإصلاح…
إسهامًا في إغناء النقاش حول المشروعين؛ ستكون وقفتنا مُجملة مع المدرسة الرائدة والمدرسة الجديدة، ما لهما وما عليهما؟ وما الخيار الأمثل للتعامل مع هذه الازدواجيَّة في ظلِّ تفلُّت زمن الإصلاح من بين أيدي المتدخلِّين؟
المدرسة الرائدة – مقاربة تجريبية لتجويد التعلمات:
إنَّ مشروع “المدارس الرائدة” مشروعٌ تجريبي أطلقته وزارة التربية الوطنية في أفُق تعميمه بين 2022 و2026، ويستهدف بالأساس تحسين الكفايات الأساسية لدىٰ التلاميذ في اللغة والرياضيات، وذلك عبر اعتماد مُقارَبَتين: “التعليم وفق المستوىٰ المناسب” (TaRL) و”التعليم الصريح”. وشمل المشروع مجموعةً من المدارس الابتدائية والإعدادية، خضعت لتقييمٍ خارجي من طرف الهيئة الوطنية للتقييم.
وأبرز ما تكشفه نتائج هذا التقييم، أنَّ المشروع استطاع إحداث فرق نسبيٍّ في تحسين تعلُّمات التلاميذ، خاصة في المستويات الدُّنيا، لكن مع محدودية أثره في المستويات العُليا، وكذلك تفاوت نتائجه بين الجهات، كما أظهر التَّقييمُ المذكور هشاشة بنية هذا التحتية والتنظيمية، خاصة في الوسط القروي. هذا بالإضافة إلىٰ ضعف التأطير التربوي، وهشاشة استقلالية المؤسسة، رغم الحديث المتكرر عن مشروع المؤسسة.
والخلاصة التي يخرجُ بها القارئ للتَّقرير أنَّ المدرسة الرائدة، رغم أهميتَّها كتجربة، تُبقي علىٰ المدرسة في وضعيتها التَّقليدية: فضاء لتعويض النقص، لا فضاء لبناء الإنسان المطلوب في ضوء التَّحوُّلات المعاصِرة.
المدرسة الجديدة – التحول من الإصلاح المُجزَّأ إلىٰ التَّأسيس لمشروعٍ إصلاحي
في المقابل؛ يقدم تقرير المدرسة الجديدة، الصادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين، رؤيةً مختلفة تمامًا. فهو لا يدعو إلىٰ ترميم المدرسة، وإنَّما إلى إعادة تأسيسها، انطلاقًا من تصوُّرٍ شمولي للمجتمع، والتعلم، والمعنى. هذا وتقوم المدرسة الجديدة حسب التَّقرير علىٰ سبعة رهانات كبرى، منها: الاستقلالية، القيادة المحلية، الحكامة، التماهي مع التحولات المجتمعية، وبناء نموذج بيداغوجي جديد.
وما يميز هذا التَّصور أنه يذهب إلىٰ أصل الأزمة، ويتجاوز المداخل التَّجزيئية في الإصلاح، ويقترح التقاءً بين التَّعليم المدرسي والعالي والتكوين المهني ضمن مشروعٍ مجتمعي واحد. لكنه في الآن نفسه يواجه تحديًا بنيويًا كبيرًا، هو غياب الخطة التنفيذية الواضحة، واستمرار مركزية القرار في يد الوزارة الوصيَّة، وضعف تفعيل مبدأ الاستقلالية، مما يجعل الرؤية مهددة بالبقاء في مستوىٰ التنظير دون أثرٍ عمليٍّ ملموس.
والخلاصة التي يخرجُ بها القارئ للتَّقرير أنَّ المدرسة الجديدة مشروع “تحويلي استراتيجي”، يُراهن علىٰ تغيير النَّموذج برمّته، لكنه يحتاج إلىٰ ترجمة مؤسَّساتيَّة وزمن سياسي داعم.
هل من تفاعلٍ بين المشروعين المدرسة الرائدة والمدرسة الجديدة
والان؛ هل نُكرِّسُ القطيعةَ بين المَدرسَتين؟ أم أنَّ هل من لقاء ممكن بين المدرسة الرائدة والمدرسة الجديدة؟
في تقديري؛ وحسب قراءتي العجلىٰ في الموضوع، أعتقدُ أنَّه ليس من الإنصاف أن نضع المشروعين في موضع التنافر، لأن بينهما خيوط تقاطع ممكنة. فالمدرسة الرائدة قد تُشكّل مدخلًا عمليًا لتطبيق بعض رهانات المدرسة الجديدة، شريطةَ تجاوز طابعها الأدنىٰ، وربطها بكفايات التفكير النقدي، والابتكار، والمشروع المجتمعي، والمخططات التَّنمويَّة للمملكة، ورهانات وتحديات الواقع المعاصر…
لكن الخطر يكمن في أن تتحوَّل المدرسة الرائدة إلىٰ بديلٍ وظيفيٍّ يُغني صنَّاع القرار عن تفعيل المدرسة الجديدة، فيبقى الإصلاح محصورًا في تحسين درجات الاختبارات، دون مساسٍ بجوهر المدرسة ووظيفتها الحضارية.
خاتمة
بعد هذه الجولة المجملة حول المدرسة الرائدة والمدرسة الجديدة؛ أقول: نحن نحتاج إلىٰ شجاعة فكريَّة ومؤسساتيَّة لنعترف بأنَّ إصلاح التعليم لا يكون فقط من خلال تحسين الأداء، بل بإعادة تعريف الغاية من المدرسة نفسها. فإذا كانت “الرائدة” مشروعًا لوقف النزيف، فإن “الجديدة” مشروع لإعادة الولادة. ولعل السؤال الجوهري الذي علينا أن نعيد طرحه هو: أي مدرسة نريد، لأي مجتمع نطمح؟
2 تعليقات
السلام عليكم. صحيح يمكن أن تكون مدارس الريادة وجها من أوجه المدرسة الجديدة دون أن تشكل النموذج الوحيد لتفعيل تصور المدرسة الجديدة. وأعتقد أن مفهوم الذي ينبغي أن تبنى من خلاله المدرسة الجديدة هو مفهوم متغير ومتكيف مع مستجدات البحث التربوي والمقارات التربوية الحديثة.
شكرا على المقال. ,اريد أن أطلب منكم نسخة من تقرير الكامل للتقييم الخارجي للمرحلة التجريبية لمشروع المدارس الرائدة لأني لم أجده بموقع المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، نشكر لكم أخي عبد الكريم هذا المرور الطيب.
بالنسبة لتقرير المجلس الأعلىٰ فتجدونه علىٰ الراب التالي:
(اضغط للتحميل)