هل كانت طريقتي في التدريس صحيحة؟ حكاية أستاذ سأل فأجابته الأرواح

0 تعليقات 16 مُشاهدة 4 دقائق قراءة

نصُّ المقال:

سؤال مقلق:

هل طريقتي في التَّدريس صحيحة؟ رافقني هذا السُّؤال طيلة مسيرتي في تدريس التربية الإسلامية في السلك الثَّانوي التَّأهيلي بالمدرسة المغربية العموميَّة، وغالبًا ما كُنتُ أُسكِتُ الصَّوت الذي بداخلي بإجاباتٍ من قبيل: ما دُمتَ مُحترمًا الثَّوابت الوطنيَّة والدِّينيَّة للمملكة المغربيَّة، وما دُمتَ ملتزِمًا بالمنهاج الدِّراسيِّ ببرنامجه، وبمفرادته، وبرؤيته… وما دُمتَ تصوغ دروسك (تحضيرًا، وتدبيرًا، وتقويمًا) من منطلق المُقاربةِ بالكفايات، فطريقتُك يا عبد الجليل صحيحة.

ولِأَنَّ الباعثَ علىٰ ذلك السُّؤال لم يكُن شكًّا في مدىٰ احترامي لما يؤطِّر عملي، بل خوفًا مِن أن لا يكون لِعملي ذلك التَّأثير الذي وضعتُه نصب عيني منذ أن حلُمت بأن أكون أستاذًا، فكان السُّؤال يُعيدُ نفسَه عليَّ وبإلحاح، ولا أُخفيكُم أنِّي راكمتُ من التَّجارب وابتكرتُ من الأساليب، وطوَّرت من الوسائل، ما لم أكُن أحلُم به بين دفَّات الكُتب، إذ تبقىٰ التَّربية في النِّهايةً فعلًا تطبيقيًا، يُصدِّقه الأثر العلميُّ أو يُكذِّبه، وإن مدَّ الله في العُمر وبارك في الصِّحة فسيكون المشروع القادم (هذا مقتطف منه زُره من هنا) رؤيةٌ لتدريس التربية الإسلامية لا من زاوية الديداكتيك السَّائدة، بل من زاوية التَّدريس الأصيل، الذي يحتاج منَّا أوَّلًا وأخيرًا مراعاة البنية الداخليَّة للتربية الإسلاميَّة، وهو ما يستدعي عملًا شاقًّا ومُضنيًا  بالعودة إلىٰ أولىٰ اللحظات التي نزل فيها الوحي (هذه تدوينة في الموضوع) إلىٰ يوم الناس هذا، استقراءًا وتقييمًا وتقويمًا…

عودةً إلىٰ ذات السُّؤال، تلقَّيتُ عبر حسابي الشَّخصيَّ علىٰ الفيسبوك إشعارًا بأنَّ أحَدَهُم أشار إليَّ في تدوينته، تجالهتُ الأمر في البدء، ولكن ما إن رأيتُ الاسم المستعار غرباء ‘ے  حتَّىٰ تملَّكني الفضول، ودفعني لقراءة المنشور، فكانت الدَّهشة، وكان حِملُ التَّدوينة أكبر مني بكثير، لم أستطع فهمَ ما جرىٰ، ولم أكُن أتوقَّع أنَّه بالإمكان أن يأتيني الجواب عن هذا السُّؤال عبر تدوينةٍ كهذه:

تدوينة من تلميذة درستها التربية الإسلامية

كنّا في أولى عتبات الثانوي، لما عادت الحياة إلى مقاعد الدراسة بعد خنقة الحجر الصحي، وارتفعت جدران الصمت عن فصولنا، فعاد الدرس يُسمع والرفقة تُرى. وكان أول ما لقينا من العلوم: التربية الإسلامية، مع أستاذ جمع بين علم ورشد، وبين لطف وهيبة، فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري ، جزاه الله عنا خير الجزاء في حصة فصلت بين عهدين.

وفي غير ما اعتدنا عليه، قال لنا في نبرة هادئة فيها شيء من التوجيه:

سأعطيكم إعدادًا قبليًا، لكنه لن يُكتب في دفاتر…”

تعجّبت!

أيّ إعداد هذا؟

وإذا به يبدأ بسؤال التلاميذ:

ما السورة التي تحبها؟

= “النور”، “طه”، “الكهف“…

ثم حان دوري، فقلتُ باسمةً: “الرحمن.”

قال:

استيقظوا فجر الجمعة، توضؤوا، صلّوا، ثم اجلسوا عند نوافذكم، واستمعوا لسورتكم التي تحبون، وتأملوا…”

فعلت كما أمر.

كان فجرًا غير عاد، فجرًا تهامست فيه النفحات في قلبي، وكان الضوء يتسلل في خجل، أول خيوط النهار… جلست عند نافذتي، وضعت السماعات، وبدأ صوت إسلام صبحي يتلو: “الرحمن، علّم القرآن…”

هناك، وبين زُرقة السماء ونسمات الفجر، شعرت أن الكون يصغي، وأن قلبي يدق على باب الله، وأن كل آية كانت لي… لي أنا وحدي.

كنت أرجو أن يسأل الأستاذ في الحصة القادمة، أردت أن أقول له: “أنا طبقت التمرين!”

لكنه لم يسأل، ومرّت الجمعات… وأنا على ذات العهد.

عندها علمت: ما أراد جوابًا، بل أراد فتحًا.

أراد أن يوقظ فينا المهابة، لا الحفظ، وأن يفتح لنا باب الإقبال، لا فقط الأداء.

وهكذا، صارت تلك اللحظة عادةً لا تُترك، وردًا لا يُهمل، أنيسًا لا يُنسى

بدأت أُقيم صلاتي، لا لأنها عادة، بل لأنها عبادة.

بدأت أُصلح حجابي، لا تقليدًا، بل شوقًا.

بدأت أقرأ القرآن، لا رياءً، بل حُبًا.

كنت من قبل أصلي لأن أبي وأمي يصليان، وأقرأ القرآن لأن أمي تقرأ القرآن، وأتحجب لأن مَن حولي يفعلن ذلك

أما الآن،

فصلاتي لله، وقرآني لله، وحجابي لله، وحياتي كلها لله.

أدركت من أكون، وعلمتُ ما رسالتي، وأجبت عن سؤال الهوية الذي حيّر فتيات كثيرات قبلي.

الآن، كل لحظة من حياتي لها معنى، وكل تعب فيها، له في الله عُذرٌ وجميل.

وحين عدت بذاكرتي إلى تلك الحصة، وإلى ذلك الأستاذ، جرى الدمع في عينيّ شكرًا، ورفعت كفيّ إلى السماء فقلت:

اللهم اجزِ عبدك عبد الجليل خير الجزاء، فقد بلّغ رسالته، وسعى بصدق فهدى الله به من شاء. لم يكن يدري أنه سيصلح أقوامًا، ويغيّر مجرى أرواحٍ ضلّت السبيل، لكنه فعل، وهو لا يشعر. فاجعل له من كل قلب اهتدى به نورًا يوم يلقاك، ومن كل نفس أفاقت على صوته ظلًا يوم لا ظل إلا ظلك.”

•| إليك يا من تهت في سراب التقليد وذابت هويتك في ضجيج الدنيا، أما آن لنا أن نُصغي للقرآن لا بآذاننا، بل بقلوبنا؟ أما آن أن نعرف لماذا نحيا؟

عد إلى الفجر، إلى تأمل كتاب الله المسطور  والمنظور ، إلى سورة تهمس لك باسم الله… ففي السجدة الخفية، والدمعة الدافئة، واليقظة الصامتة، وُلدت أعظم التحولات… وهناك، هناك يبدأ الطريق.

(فردوس)

#غادة_السندس_والرياحين

هل درَّست التربية الإسلامية بطريقة صحيحة؟

بعد قراءتي للتَّدوينة، عُدت إلىٰ دفتري الذي رافقني طيلة مسيرتي العملية، وقلَّبتُ النَّظر طيلة تلك الليلة في القصص التي دوَّنتها، والتجربة التي ركامتها، فاختلطت عليَّ المشاعر، وشعُرت بالحنين لتلك الأيام، وتوقَّفتُ من جديدٍ عند السُّؤال نفسه: هل طريقتك في التدريس صحيحة؟

أجبتُ هذه المرَّة، بيقينٍ لا يشوبه شك: ما دُمتَ قد بذلت جهدًا في أن تبذُرَ خيرًا، فالله سيتولَّىٰ السُّقيا. أمَّا الجواب القطعيّ نعم أم لا، فدعه للقارئين حين يصدر المشروع.

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00