مشروع البناء الفكري لفتحي ملكاوي في زمن الذكاء الاصطناعي: محاولة في مساءلة النموذج ومآلاته المعرفية

0 تعليقات 111 مُشاهدة 7 دقائق قراءة

نصُّ المقال:

تقديم منهجي:

يُعدُّ كتاب “البناء الفكري: مفهومه، مستوياته، وخرائطه” للدّكتور فتحي حسن ملكاوي من الإسهامات الرَّصينة في حقل الفكر الإسلاميِّ، وقد شغل موقعًا هامًّا في مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلاميِّ لإعادة بناء العقل المسلم. وينطلق هذا الكتاب من فرضيَّةٍ محوريَّةٍ مفادها أنَّ أزمة الأمَّة الإسلاميَّة -حضاريًّا- هي أزمة فكرٍ بالدَّرجة الأولىٰ، ويقترح المؤلِّف نموذجًا لبناء الفكر يتدرج مِن المفاهيم إلىٰ العلاقات إلىٰ النَّظريات، كما يعتمد منهجيَّةً تكامليَّة تُوظِّف مصادر متعددة تشمل الوحيَ، والعقل، والتُّراث، والتَّجربة الإنسانية.

غير أنَّ تسارعَ تطوُّرات الذَّكاء الاصطناعي، واتِّساع نطاق توظيفه في تحليل الفكر البشريِّ، وتوليد المحتوىٰ، بل والمشاركة في الإنتاج والإبداع والنَّقد، يدفعنا اليوم إلىٰ إعادةِ النَّظَّر في الأسس المعرفيَّة والمنهجيَّة التي يقوم عليها كتاب “البناء الفكري”، لا مِن أجلِ نقضِه، وإنَّما مِن أجل إعطائه نَفَسًا جديدًا، خصوصًا في ظلِّ ما أصبحنا نراه بل ونُفاجأُ به في عالم الذَّكاء الاصطناعيِّ، وقدرته علىٰ توليد الأفكار وإبداعها وتحليلها…

في هذا السّياق، ستسعىٰ هذه المقالةُ إلى إعادة قراءةِ أطروحة “البناء الفكري” للدكتور فتحي حسن ملكاوي ومساءلتها في ضوء ما كشفته الأدبيات المعاصرة حول علاقة الفكر الإنسانيِّ بالذَّكاء الاصطناعيِّ، فهل ما زالت المقاربة التي اقترحها فتحي ملكاوي قادرةً علىٰ تفسير بِنية الفِكر في ظلِّ الذَّكاء الاصطناعيّ؟ وهل نستطيع الحفاظ علىٰ ثنائية الإنسان/الفكر في عالمٍ بات فيه الذَّكاء الاصطناعيّ يُشارك -بل يُنازع- الإنسانَ عرشَ العقل؟ هذه، وسواها من الأسئلة الجوهريَّة، نطرحها في سياق التَّفاعل مع المشروع الذي أفنىٰ فيه الدكتور فتحي ملكاوي سنواتٍ من عمره، مؤمنًا بعمقه وأهميَّته، وموقنًا بأنَّه مسار لازمٌ لتحقيق الشُّهود الحضاري الذي تنشده الأمة الإسلاميَّة. وكلُّنا أملٌ في أن تسهم هذه الأسئلةُ في إبقاء قضيَّة البناء الفكري حيّةً وحيويَّة، تؤدي دورَها في توجيه الوعي، وتفعيل الاجتهاد، واستئناف المسار المعرفي الذي تتقاطع فيه الأصالة مع مقتضيات العصر.

أولاً: الإطار النظري لمفهوم البناء الفكري عند فتحي ملكاوي

يتأسَّس كتاب “البناء الفكري” علىٰ مفهومٍ مركَّبٍ للفكر باعتباره عمليَّةً تراكميَّةً تُبنىٰ لبِنة لبِنة، وترتبط بمصادر متداخلة: العقل، الوحي، التراث، التجربة. ويحدِّد المؤلِّف مستوياتِ بناء الفكر في خَطَّيْن متوازيَين:

  • الأوَّل: من الحقائق إلى المفاهيم إلى النَّظريات (خط التَّجريد)،
  • والثَّاني: من البيانات إلىٰ المعلومات إلىٰ الحكمة (خط التَّوظيف).

ما يميِّز هذا النموذج، محاولتُه التَّوفيق بين البِنية الإبستمولوجيَّة للفكر وغاياته الحضارية، فالفكر هنا ليس مجرَّد عملية عقلية، بل إنَّه أداة نهضوية، وأفقٌ للتَّغيير الحضاري. هذا ويقترح الكتاب تصورًا شاملًا للخرائط الفكرية التي تعين علىٰ رسم معالم لمصادر الفكر، وموضوعاته، ووسائله، ومعاييره.

لكنَّ الملاحَظة التي ننطلقُ منها الآن تتلخَّصُ في أنَّ هذا التَّصورَ الذي يقدِّمُه الدكتور فتحي حسن ملكاوي رغم عُمقه واتِّساقه الدَّاخلي؛ ظل مُرتبطًا بإطارٍ معرفيٍّ يُمكنُ أن نُطلِقَ عليه إطار ما قبل الذَّكاء الاصطناعيِّ؛ أي أنَّه يستبطن تصوُّرًا عن الفكر قائمًا علىٰ التَّفرُّد البشريِّ في مجالات الوعي، والإبداع، والمعنىٰ. وهذا ما يستدعي إعادة فحصٍ، خصوصًا في ظلِّ جدليَّة هل الذَّكاء الاصطناعيّ يُفكِّر ويعي أم لا؟!.

ثانيًا: الذكاء الاصطناعي وتحولات مفهوم الفكر: إعادة تعريف ما نعدّه تفكيرًا

تُشير الأدبيات الفلسفيَّة المعاصرة إلىٰ أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ -خاصة في تجليَّاته التَّوليديَّة- قد بدأ يُنازع الإنسانَ في مجالاتٍ كانت حكرًا عليه، كالكتابة الأدبيَّة، والرَّسم، والتَّأليف الموسيقيُّ، بل وحتَّىٰ إنتاج أطروحات فلسفيَّة سطحيَّة مقبولة لغويًا. فإذا كان الفكر-كما يُقدِّمه ملكاوي- يتميَّز بالوعيِ، والفهم، والإبداع، والقدرة علىٰ إنتاج المعنىٰ، فإننا اليوم أمام تحدٍّ جوهريٍّ: نماذج الذكاء الاصطناعي (كـ GPT-4 وClaude وGemini) قادرة علىٰ محاكاة كل تلك المخرجات دون أن تمتلك وعيًا بالمعنىٰ.

من هنا تُطرَح إشكاليَّة مفصليَّة: هل يكفي أن نحصر الفكر في مستوياته التَّقليديَّة، دون أن نُخضِعه لمساءلة وجوديَّة في عصر باتت فيه الأنظمة تتجاوز قدرات الإنسان في الحفظ، التحليل، والإنتاج؟ وما موقع الإنسان المفكِّر في خريطة معرفيَّة تتغيَّر فيها أدوات الإدراك والتَّوليد؟

ثالثًا: خرائط الفكر عند ملكاوي في ميزان الذكاء الاصطناعي: أي فاعلية اليوم؟

يرىٰ فتحي ملكاوي أنَّ مِن مقتضيات البناء الفكريِّ رسم خرائطَ معرفيّة تشمل مصادر الفكر، وموضوعاته، ووسائله، ومعاييره، وتاريخه وجُغرافيَّته. غير أن الممارسة الواقعيَّة للذَّكاء الاصطناعيِّ تجاوزت هذه الخرائط في نواحٍ كثيرة، فعلىٰ سبيل المثال لا الحصر:

  • علىٰ مُستوىٰ مصادر الفكر: باتت المعلومة تُنتج خارجَ الإنسان، وباتت الخوارزميات تُستشار كمرجع، بما يشبه “أنسنة المعرفة” المولَّدة آليًا.
  • علىٰ مُستوىٰ موضوعات الفكر: توسَّعت بشكلٍ لم يسبق له مثيل، وأصبحت هناك تقاطعات بين الحقول المعرفيَّة تولَّد اصطناعيًًا.
  • علىٰ مُستوىٰ وسائل التَّفكير: لم تعد محصورة في العقل البشريّ، بل انتقلت إلىٰ وسائط هجينة: إنسان + آلة.

ولا يخفىٰ أنَّ هذا يفتح سؤالًا نقديًا: هل ما زالت خرائط “البناء الفكري” كما يُقدِّمها الكِتاب قادرةً علىٰ تنظيم الممارسة الفكريَّة؟ أم أنَّ الحاجة مُلحَّة اليوم لخرائط معرفيَّة جديدة تأخذ بعين الاعتبار الفاعلين الجدد في الحقل الفكريّ؟ ألا نحتاج إلىٰ إدراج “الآلة المفكِّرة” كمصدرٍ جديدٍ للفكر، ولو من باب الأداة/الشريك؟

رابعًا: في نقد المنهج التراكبي للمعرفة: ماذا بقي من التدرج من البيانات إلى الحكمة؟

يبني ملكاوي مشروعه علىٰ تصوُّرٍ هرميٍّ يتدرج من البيانات إلىٰ الحكمة، ومن الحقائق إلىٰ النظريات. غير أن هذه السيرورة التَّراكمية -علىٰ أهمِّيَّتها- تواجه اليوم أزمةً عميقة، فالذكاء الاصطناعي لا يسير بالضرورة من البيانات إلىٰ الحكمة، بل قد يُنتِج مُخرجات عالية التَّجريد مباشَرَة دون المرور المألوف بالمستويات الوسيطة.

كما أنَّ التَّوليدَ الآلي قد يُنتج نظريَّات أو مواقف فلسفية دون المرور بمراحل التَّحليل المعرفي التَّقليدي. فهل ما زال التدرج الهرميُّ للفكر صالحًا لتوصيف عمليَّات التَّفكير في العصر الرَّقمي؟ أم أنَّنا بحاجة إلىٰ نماذج أخرىٰ بديلة، مثلًا نماذج شبكيَّة وغير خطيَّة تواكب طبيعة التَّفكير الاصطناعي وتقاطعاته اللَّحظية بين المُعطىٰ والتَّجريد؟

خامسًا: حول المعنى والوعي: هل يمكن للآلة أن تشارك في صناعة الفكر؟

يعتمد مشروع “البناء الفكري” ضِمنيًّا علىٰ فرضية أنَّ الفكرَ فعلٌ إنسانيٌّ لا يشترك فيه غير الإنسان، لارتباطه بالمعنىٰ، والوعي، والتَّأمل. لكن هذه الفرضيَّة أصبحت بدورها محلَّ مساءلة، فلو ألقيْنا نظرةً علىٰ تجربة “الغرفة الصينية” (سيرل) مثلًا، نجدها لا تزال تلقي بظلالها علىٰ النقاش: هل تفهم الآلة المعنىٰ أم تحاكيه فقط؟ وإذا افترضنا أنَّ الفكر ليس محصورًا في وعي داخليٍّ، بل هو فعلٌ إنتاجيٌّ يُقاسُ بنتائجه، فهل تفقِد المقاربة التي اعتمدها ملكاوي بعض صلاحياتها؟

في تقديري؛ تضع هذه الأسئلة أطروحةَ “البناء الفكري” أمام استحقاقٍ أنطولوجي يتجاوز المعرفيّ، ويُمكن التَّعبير عنه بـ: ما الذي يجعل الفكر فكرًا؟ هل هو الذَّات الواعية، أم المخرجات القابلة للتَّأويل والمعالجة؟

سادسًا: الأيديولوجيا والتحيز والهيمنة في الذكاء الاصطناعي: من يُنتج الفكر؟

في ظلِّ تصاعد تأثير الذَّكاء الاصطناعي في إنتاج المعرفة، تبرز قضية بالغة الحساسيَّة تتعلَّق بالسُّؤال: من يملك أدوات إنتاج الفكر؟

إنَّ الشَّركات الكبرى المسيطرة علىٰ تطوير الذَّكاء الاصطناعيّ (OpenAI، Google، Meta، Anthropic…)، هي جزء من منظومة معرفيَّة وثقافيَّة غربيَّة ذات مرجعيَّات إيديولوجية خاصة، وهذا يثير تساؤلًا خطيرًا: إذا أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في إنتاج الفكر، فمن يُحدِّد مُحتواه؟ وهل يُمكن أن نعد فكرًا “إسلاميًا” ذلك الذي يُنتَج -جزئيًا أو كُليًّا-عبر منظومات معرفيَّة تُبرمَج وفق قيم غربية أو تصورات ماديَّة للعالم؟

والأمر لا يقف عند مستوىٰ إنتاج المعلومة فحسب، بل يصل إلىٰ توجيه التَّفكير ذاته، وهٰهنا أُحيل إلىٰ ما يُعرَفُ بخوارزميات التَّوصيَّة، وتصنيف النَّتائج، واقتراح الأسئلة، جميعها لا تسلَمُ مِن تحيزات خفية: أيديولوجية، معرفية، ثقافية… فالآلة لا تعمل في الفراغ؛ إنها تتغذّىٰ علىٰ بيانات يختارها مطوِّروها، وتُقَيَّد بضوابط أخلاقيَّة يضعها البشر بناءً علىٰ رؤيتهم الكونيَّة وخلفيَّاتهم الأيديولوجيَّة، والسؤال هنا: هل نملك نحن – الأمة الإسلامية – أدوات التأثير في هذه المنظومة؟

من هذا المنظور؛ يصبح الفكرُ المنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي محل تشكيك: هل هو حقًا فكرٌ محايد؟ أم أنَّه -من حيث لا ندري- يعيد إنتاج المركزيَّة الغربيَّة في التَّفكير، ولكن بلغة حيادية قد تكون خادعة؟

وهذا يقودنا إلىٰ الدَّعوة إلىٰ يقظةٍ معرفيَّةٍ جديدة: لا نرفض فيها الذكاء الاصطناعي، ولكن لا نستسلم له بوصفه أداة بريئة. بل نسائِل بياناته، ونُراجع آلياته، ونشارك في تطويره من داخل المرجعية الإسلامية. فالتَّحدي الفكري الأكبر في زمن الذكاء الاصطناعي ليس في توظيفه، بل في تحرير الفكر من هيمنة أيديولوجيَّة تتسلل إليه تحت غطاء التقنية.

سابعًا: نحو إعادة بناء تصور الفكر: من الإنسان المفكر إلى البنية التشاركية

إذا نجن أردنا إعادةَ النَّظر في تصوُّرنا عن الفكر، فإنَّ الاتجاه المعاصر يشير إلىٰ تصورات جديدة، يكفينا أن نذكر منها:

الفكر لم يعد حصريًا علىٰ الإنسان؛ بل أصبح “نشاطًا موزّعًا” بين الإنسان والآلة والبيئة الرقمية.

الذكاء الاصطناعي يُنتِج أنماطًا من التَّفكير المشترك: فالمقال يُكتب تعاونًا، والفكرة تُولَّد تفاعليًا.

فأمام هذا التَّحول، تصبح الحاجة ماسَّة إلىٰ نموذج جديدٍ للبناء الفكري لا يلغي الإنسان، ولكن لا يغفل الشَّريك الجديد في إنتاج الفكر. وقد يكون من المناسب اقتراح تصور بديل لما سمّاه ملكاوي “البناء الفكري”، نعبر عنه بـ “البناء التَّشاركي للفكر”، يقوم علىٰ:

  1. الوعي بأدوار الوسيط التكنولوجي.
  2. تطوير حس نقدي تجاه المخرجات الاصطناعية.
  3. صياغة معايير جديدة لتمييز الفكر الأصيل من المحاكاة.

خاتمة واستشراف: سؤال أخلاقي ومعرفي مفتوح

ليس الهدف من هذه المقالة نفي القيمة العلمية والمعرفية لكتاب “البناء الفكري”، بل بالعكس، كان الهدف الأساس هو الاعتراف بأصالته التَّأسيسيَّة، فقد صاحبتُ الرَّجُل في مناسبات علميَّة عديدة، كما صاحبته في جُلِّ كتاباته وإنتاجاته، ومِن بين ما استفدتُ منه أنَّ جوهر التَّفكير هو طرح الأسئلة، ولذلك؛ طرحت هذه الأسئلة اليوم عملًا بمنهجه، فوجَّهتها نحو حدود النماذج التي أصبحت اليوم توصَف بالتَّقليديَّة في ضوء وقائع جديدة.

وكم نحتاج في الفكر الإسلاميِّ إلىٰ مراجعةٍ شجاعةٍ لمفاهيمنا عن العقل، الفكر، الإنتاج المعرفي، وذلك في ضوء التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي، وإن النَّموذج المَلكاوي، بعمقه البنائي، يدعونا إلىٰ بناء جديدٍ، بل و”بناء البناء” ذاته.

هذا يبقى السؤال مفتوحًا: كيف نُعيد بناء الفكر، لا فقط من حيث مستوياته، بل من حيث ماهيته، ومصادره، وفاعليه؟ وكيف نضمن أن يبقىٰ الإنسان فيه مركزًا لا محورًا فقط، في عصرٍ لم يعد الفكر حكرًا عليه؟

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00