القدرات في سياق المقاربة بالكفايات: المفهوم، الأبعاد، والتطبيقات البيداغوجية

سلسلة مصطلحات ومفاهيم تربوية

0 تعليقات 56 مُشاهدة 8 دقائق قراءة

نصُّ المقال:

مقدمة:

يُعدُّ الانتقالُ مِن التَّركيز علىٰ الأهداف السُّلوكيَّة إلىٰ ما يُعرف بـ”المقاربة بالكفايات” مِن أبرز التّحوُّلات التي عرفتها البيداغوجيا الحديثة، وقد فرضت هذا التَّحوُّل تحديات معرفية، وتكنولوجية، واجتماعية، ويُعتبر سعيُ النّظم التَّربوية إلىٰ إعداد متعلِّمين قادرين علىٰ مواجهة وضعيَّاتٍ مركَّبة، بدلَ الاكتفاء بتمكين المُتعلِّمين مِن إنجاز مهام جزئية ومعزولة؛ مِن أهمِّ الدَّوافع التي فرضت هذا النَّوع من التَّحوُّل.

وفي هذا السياق؛ يذهب الباحث Jean-Marie De Ketele إلىٰ أنَّ الكِفاية هي “مجموعة مدمجة من المعارف والمهارات والقدرات التي يُعبّئها الفردُ لمواجهة وضعيات مشكِلة” (De Ketele, 1996, p. 27)، إنَّ هذا التعريف يُظهِر بوضوحٍ أنّ الكفايات ليست مجرّد معرفة أو قدرة مفصولة عن الفِعل، بل إنَّها تقتضي اندماج مكوّناتٍ متعددة، من ضمنها “القدرات” التي تشكّل حجر الزَّاوية لأيِّ فعلٍ كفائيٍّ.

ومِن هذا المُنطلَق أقول: إنّ فهمنا الجيّد لمفهوم “القدرات” في هذا السِّياق -سياق التَّدريس بالكفايات- يُعدُّ مفتاحًا أساسيًّا لبناء الممارسات الصَّفية الصَّحيحة والفعّالة. ولهذا نجيب في هذا المقال عن الأسئلة الآتية: ما الذي نعنيه بالقدرات؟ وكيف تسهم في تحقيق التعلُّم بالكفايات؟ وكيف يمكن للمعلِّمين تنميتها في مختلف المواد الدراسيَّة؟

القدرات: المفهوم والخصائص

يكتسب مفهوم “القدرة” في إطار المقاربة بالكفايات مكانةً مركزيَّة، فهو أحد اللَّبِنات الأساسيَّة التي تُبنىٰ من خلالها الكفاية. ومِن خلال اطلاعٍ مٌستفيضٍ علىٰ مفهوم القدرة – كما تطرحُه الأدبيَّات التَّربويَّة الحديثة- يُمكنني أن أُعرِّفَها بتجريدٍ عالٍ علىٰ “أنَّها استعدادٌ داخليٌ قابل للتَّعبئة في سياقات تعليميَّة متعدِّدة، يتيح للفرد إنجازَ مهامّ ذهنية أو عملية بكيفية فعّالة”.

ولا يمنعُ المقام مِن أن نجول جولةً سريعةً علىٰ أهمِّ التَّعريفات الرَّائجة في سوق التَّربية عن مفهوم القدرة، لقد عرّفها Jean-Marie De Ketele بأنَّها “إمكانية فعلية نسبية عند الفرد، تمكّنه من أداء مهمات متعددة ضمن صنف واحد من الأنشطة، بطرائق قابلة للتحويل من وضعية إلىٰ أخرىٰ” (De Ketele, 1996, p. 30).

ومِن المُلاحظ أنَّ هذا التعريف يبرِز أمرين اثنين: الأوَّل: الطَّابع الدينامي والعملي للقدرة، فهي إمكانيَّة قابلة للتَّفعيل؛ والثَّاني: قابليتها للتكيّف والتحوّل بين المهام المختلفة داخل الصنف نفسه من الأنشطة، ولهذا فإنَّ القدرة ذات طابعٍ وظيفيٍّ (لأنَّها فعلٌ) واستراتيجيٍ (لأنَّها متكيِّفةٌ).

في السِّياق نفسه؛ يشير Tardif إلىٰ أنَّ القدرة “تنظيمٌ داخليٌّ لمعارف مكتسَبة، تسمح للفرد بأداء سلوكٍ معيَّنٍ بدرجة من التَّحكم” (Tardif, 2006, p. 47). إنَّ إمعانَ النَّظر في هذا الطَّرح الذي قدَّمه Tardif يمكِّنُنا من أن نستنتج أنّ القدرة ليست سلوكًا معزولًا، بل ثمرة تداخلٍ بين المعرفة والتَّمكُّن العقليّ والأداء السُّلوكيّ، يُعيد المتعلم تشكيلها كلّما وُضِع في وضعيَّة مشكلة تتطلب تعبئة ذكيَّة لمعارفه.

أما في الأدبيات التربوية العربية، فقد لخّص محمد الدريج (2000) هذا المفهوم بقوله: “القدرة هي ما يُعبّئه المتعلِّم من معارف ومهارات واتجاهات لإنجاز فعلٍ تعلُّمي أو حلِّ وضعية تعليمية معيَّنة” (الدريج، 2000، ص. 87). لقد أبقىٰ الدريج في تعريفه علىٰ عنصر التوظيف العملي، وأضاف إليه بعدًا وجدانيًا يتمثّل في حضور الاتِّجاهات والمواقف، وهو ما يُمكن مناقشته في مقال مُستقِلٍّ إن شاء الله تعالىٰ.

إذن؛ من خلال هذه التَّصورات المتكاملة، يمكن القول إنَّ القدرة تمثل تنظيمًا عقليًَا داخليًّا، يُعبّر عن نفسه في الأداء، ويُكتَسب بالتَّدريب، ويتطوَّر عبر التَّراكم، ويُستثمَر في وضعيات جديدة.

من الخصائص الجوهريَّة التي يمكن استخلاصها من جميع ما سبق:

  • القدرة بِنية داخلية قابلة للتَّعبئة: فهي لا تظهر في ذاتها، وإنما تتجلىٰ عبر الفِعل. فالمتعلم لا “يملك” القدرة كما يملك معلومة، بل “يُفعّلها” عند اللُّزوم.
  • القدرة تتصف بالديناميَّة: فهي ليست ثابتة، بل تتطوَّر عبر الخبرة والممارسة، ما يجعلها أكثر قابليَّة للنمو عبر المسار التَّعليمي.
  • القدرة ذات طابع وظيفي: أي أنها ترتبط دائمًا بإنجاز مهمَّة أو حل وضعيَّة. ولذا؛ فإنَّها لا تُنمّىٰ في الفراغ، وإنَّما ضمن نشاط تعليمي هادف.
  • القدرة تتطلب التَّحويل: أي أنَّ المتعلم لا يُكرِّر سلوكًا محفوظًا، بل يطبّق قدرة معيَّنة في وضعٍ أو وضعيَّةٍ جديدة، وهو ما يميز التَّعلم العميق والاستراتيجيّ عن التعلُُّم السَّطحي والآني.

ما العلاقة بين الكفايات والقدرات؟

يُعتبرُ فهم العلاقة بين الكفايات والقدرات مدخلًا ضروريًا للتدريس الصحيح عبر المقاربة بالكفايات، وأكاد أجزِمُ أنَّه في غياب هذا الفهم فإنَّه لا يُمكننا الحديث عن تطبيقٍ تربويٍّ سليمٍ للمقاربة بالكفايات. فغنيٌّ عن البيان أنَّ الكفايةَ لا تُختزل في مجموع من المعارف والمهارات، بل تقوم علىٰ دمجٍ وظيفيٍّ لقُدرَات متعدِّدة تُعبّأ في وضعية معقّدة، بما يسمح بتحقيق أداءٍ ناجحٍ وملائِم للسياق.

في نفسِ الموضوع، يوضِّح Jacques Tardif (2006) أنَّ الكفاية “لا تُختزل إلىٰ معرفة أو مهارة، بل هي نظام من القُدرات يُفعّلها المتعلم في سياق معيَّن، بما يسمح له بالنجاح في المَهمة أو حل المشكلة” (ص. 56). هذا التصور يكشف بوضوحٍ أنَّ القدرة ليست عنصرًا خارجيًًا عن الكفاية، بل هي جزء بِنيوي منها، وتشكل الوسيط الذي يسمح بتوظيف المعارف بشكل فعّال.

ويؤكد محمد الدريج أيضًا هذا الارتباط، حيث يرىٰ أنَّ “القُدرات تُمثّل المكوِّنات الداخلية للكفاية، وهي التي تُفعِّلها عند الحاجة في وضعيَّات معيَّنة، مما يجعلنا ننظر إلىٰ الكفاية كنتاجٍ لمجموعة من القدرات المتفاعلة” (الدريج، 2000، ص. 92).

إذن؛ فالكفاية لا يمكن بناؤها دون امتلاك قاعدة صَلبة من القدرات، مما يعني أنَّ كُلَّ جهد لتطوير كفاية معيّنة يجب أن ينطلق من تحديد القدرات اللَّازمة لها.

ويُمكنني أن أفسر هذه العلاقة بشكل وظيفيٍّ من خلال المثال التَّالي:

في مادة اللغة العربيَّة مثلًا؛ إذا طُلب من التَِّلميذ إنتاج نصٍّ سرديٍّ يُراعي الزَّمان والمكان والحِبكة، فإنَّ نجاحه في هذه الكفاية يعتمد علىٰ قدرات مثل:

  1. التَّنظيم المنطقي للأحداث،
  2. التَّحكم في البنية اللغوية،
  3. استحضار المعرفة السابقة بالأنواع السردية.

فكلّ واحدة من هذه القدرات تشتغل في خلفيَّة الأداء الكتابيِّ، وهي التي تُعطي للكفاية معناها العملي.

الفرق بين المهارات والقدرات

تُعدّ العلاقة بين “القدرة” و”المهارة” من أكثر العلاقات المفاهيميَّة التي تثير اللَّبس في حقل التربية، لا سيما في سياق المقاربة بالكفايات. فكثيرٌ من الممارسين يُسقِطون أحد المفهومَين علىٰ الآخر دون تمييزٍ دقيقٍ بينهما، ممَّا يؤدي إلىٰ اختلال في بناء الأنشطة التعليمية وتقويمها.

ولفهم الفرق، لا بد من تحديد موقع كلٍّ من المصطلحين داخل البنية المفهومية للكفاية، فمثلا يرىٰ Jacques Tardif (2006) أنَّ “المهارة تشير إلىٰ سلوك عمليٍّ دقيق قابل للملاحظة والتَّقويم، بينما القدرة تتعلق ببنية معرفية داخليَّة تُمكّن من استخدام المهارات بمرونةٍ في وضعيَّات متغيرة” (ص. 61).

 ويفهم من هذا التَّحديد أنَّ المهارة تُمثّل الجانب الظاهريَّ الإجرائي، بينما القدرة هي الجانب العميق الذهني والمنهجي الذي يَسمح بتوظيف تلك المهارة في سياقات متنوّعة، ممَّا يعني أنّ المهارة تقعُ في مرتبةٍ أقلّ من القدرة من حيث درجة التَّعقيد.

أما محمد الدريج (2000) فيميّز بين المفهومين بقوله: “المهارة فعلٌ متعلَّم قابل للتكرار، أما القدرة فهي استعداد يتطلب تنشيطًا ذهنيًا ووجدانيًا متكاملاً لتحقيق هدف معين في وضعية محددة” (ص. 88). وهٰهنا يُظهِر الدريج الفرقَ باعتبار أن المهارة قد تُكتسب بالتكرار دون وعيٍ عميقٍ، مثل مهارة الكتابة بخطٍ جميلٍ، لكن القدرة (كالمثال السابق عن كتابة نص سرديٍّ) تفترض اندماجًا لمعارف ومواقف ومهارات في فعل قصديٍّ واعٍ، كأن يحلل المتعلم خطابًا لغويًا مستخدمًا مهارات متعددة في تحليل البنية والدَّلالة والسياق.

تطبيقات بيداغوجية لتنمية القدرات ضمن المقاربة بالكفايات

لا يمكن تنمية الكفايات لدىٰ المتعلمين دون تخطيط بيداغوجيٍّ يستهدف القدرات بشكل مباشر، فالممارسة التَّعليمية التي تُهمل العمل علىٰ تطوير القدرات العقليَّة والمنهجيَّة والتَّواصلية، تظل حبيسة نقل المعارف السَّطحية، ولا تُفضي إلىٰ بناء التعلُّم العميق أو توظيفه في وضعيات جديدة.

يُشير Perrenoud (1997) إلىٰ أنَّ “تنمية الكفاية تمرّ حتمًا عبر بناء قدراتٍ يمكن تعبئتها في وضعيات غير متوقعة، وذلك لا يتحقق إلَّا من خلال أنشطةٍ تعليمية تُثير التَّفكير، وتضع المتعلِّم في موقع الفاعل” (ص. 112)،  يُبرِز هذا القول أنَّ القدرة لا تُنمَّىٰ بالتمارين المغلَقة أو الممارسات التّكرارية، بل عبر وضعيَّاتٍ علىٰ درجةٍ من التعقيد الذي يتطلَّب من المتعلم اتّخاذ القرار، وحل المشكل، وإعادة التنظيم، أو شرح موقف معين.

أمَّا في الأدبيات التربوية العربية، فيوضح الحبيب اللحية (2007) أنَّ “القدرات لا تنفصل عن الوضعيات التعليمية، بل تُبنى داخلها، في سياقٍ يسمح للمتعلِّم بممارسة عمليَّات عقلية مركَّبة كتفكيك المعطيات، والمقارنة، والاستنتاج” (ص. 68).

الخلاصة؛ يتضح من هذا الطرح أنَّ القدرة لا يُمكن تعليمُها شكل مباشر، بل تُستثار من خلال تصميم الوضعيَّات التعليمية الغنيَّة، التي تنخرط فيها قدرات متعدِّدة ضمن هدفٍ واضح.

وإليكم بعض الاستراتيجيات الفعالة في تنمية القدرات:

  • بيداغوجيا الخطأ:

تعترف هذه المقاربة بأنَّ الخطأ جزءٌ من عملية التعلُّم، وتوظِّفه كأداةٍ لفهم طريقة تفكير المتعلم. ومن الأمثلة التَّطبيقيَّة في هذه البيداغوجيا: مثلا في مادَّة الرياضيات، عندما يخطئ المتعلم في حل معادلة، يُطلب منه تفسير الخطوات التي اتبعها، مما يُنمّي قدرته على التحليل الذاتي والتصحيح المنهجي.

  • بيداغوجيا حل المشكلات

تضع هذه البيداغوجيا المتعلمَ في مواجهة وضعيَّة جديدة معقدة، تتطلب منه تعبئة موارده. ومن الأمثلة التَّطبيقيَّة في هذه البيداغوجيا: مثلا في مادة علوم الحياة والأرض، يُطرَح سؤال إشكالي: “لماذا تتساقط أوراق بعض الأشجار في فصل الخريف؟” وعلى المتعلمين البحث والتَّقِّصي وطرح فرضيات، مما يُفعّل قدرات الملاحظة، التحليل، والاستدلال.

  • البيداغوجيا الفارقية

تراعي الفروق الفردية في مستوى القدرات، وتقترح مهامّ متنوعة لتناسب أنماط المتعلمين، ومن الأمثلة التَّطبيقيَّة في هذه البيداغوجيا: مثلا في مادة اللغة العربية، يُقسَّم المتعلمون إلىٰ مجموعات حسب قدراتهم في التعبير، ويُعطىٰ لكل مجموعة نشاط مختلف (كتابة قصة، تحليل نص، مناقشة شفوية)، مما يُفعّل القدرات التواصلية والمعرفية حسب مستوى كل فئة.

الخاتمة

إنّ تحليل مفهوم “القدرات” ضمن سياق المقاربة بالكفايات يبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الكفايات الحقيقية لا تُبنى على مجرد تكديس المعارف أو تلقين المهارات، بل تتأسّس على تعبئة فعالة لقدرات مركبة، تُستثار وتُفعل في وضعيات تعليمية معقدة وقابلة للتحويل.
لقد اتضح من خلال الأدبيات التربوية، العربية والغربية، أن القدرة ليست مجرّد استجابة آلية، بل بنية معرفية واستراتيجية داخلية، يُعيد المتعلم تشكيلها باستمرار وفق السياق. فهي تدمج البعد الذهني والسلوكي والوجداني، وتُمارَس لا في المعزل عن الوضعية، بل من خلال الانخراط الواعي فيها.
كما تَبيّن من خلال المقارنة المفاهيمية أنّ التمييز بين القدرة والمهارة أمر بالغ الأهمية في التخطيط البيداغوجي. فبينما تُمثل المهارة جانبًا تقنيًا ظاهرًا، فإنّ القدرة تمثّل الجانب العميق الذي يمنح الأداء معناه ومرونته وسياقيته.
وقد أبرزت التطبيقات الصفية أن تطوير هذه القدرات لا يتم بشكل عفوي، بل يحتاج إلى هندسة تعليمية دقيقة تراعي تنوع السياقات، وتُدرّب المتعلم على الاستبصار الذاتي، واتخاذ القرار، ومعالجة المعطيات. وهو ما تتيحه استراتيجيات بيداغوجية مثل التعلم من الخطأ، حل المشكلات، والفارقية، التي تتجاوز التعليم التقليدي نحو تعلم فعّال ومقصود.
لذلك، فإنّ الاستثمار الواعي في تنمية قدرات المتعلمين، يُعدّ رهانًا أساسيًا لإصلاح التعليم من الداخل، ويُسهم في إعداد جيل قادر على التفكير، والتحليل، والتكيف، لا الحفظ والتكرار.

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00