موسوعة الأخلاق لخالد الخراز: تحليل وآفاق بحثية

مقدمة عن الاتجاهات الراهنة في علم الأخلاق

علمُ الأخلاق؛ أو الفلسفة الأخلاقيَّة؛ أو علم التَّربية الخلقية… بغضِّ النَّظر عن التَّسميَّه فقد عرف هذا المجالُ تطوُّرات ملحوظة في السَّنوات الأخيرة، من أبرزها اتساع دائرة الدِّراسات الأخلاقية لتشمل مقاربات متعدِّدة التخصُّصات، تجمع بين التَّحليل الفلسفيِّ، والمعطيات النَّفسيَّة، والدِّراسات الاجتماعيَّة، والمرجعيَّات الدِّينية. وقد خلُصت دراسات تحليليَّة حديثة إلىٰ أنَّ البحوثَ المعاصِرة باتت تُقرُّ بالحاجة إلىٰ منهجٍ شاملٍ يجمع بين هذه الأبعاد المختلفة، من أجل فهم أدق للسلوك الأخلاقي ودوافعه الفردية والجماعية.

وقد رافق هذا الاتِّجاه تنامٍ في الاهتمام بمواضيع تطبيقية مستجدة، كأخلاقيات الرِّعاية الصحية، وأخلاقيات النَّوع الاجتماعي، والقيم المجتمعيَّة في سياقات التحول الحضاري، وأخلاقيات العالم الرَّقمي… وتبرُز هنا الحاجة إلىٰ إعادة طرحِ كثيرٍ من المفاهيم الأخلاقيَّة للدِّراسة، خصوصًا فيما له ارتباطٌ بمدىٰ بأسئلة العصر مثل تصاعد التَّحديات المتعلقة بأخلاقيات الذَّكاء الاصطناعيّ، والأزمات البيئيَّة، والعلاقات الدَّولية وما تحمله من مؤشِّراتٍ علىٰ توترَّاتٍ تزداد حِدَّتها يومًا بعد يوم، وكذلك جرائم الحرب، والتطورات في مجال الأحياء والجينوم…

وفي السِّياق الإسلامي، انبعث وعيٌ متجدِّد بمركزية الأخلاق في مشاريع النَّهضة الفكريَّة والدِّينية. إذ يرى عددٌ من المفكِّرين المسلمين المعاصرين أن تجاوز حالة التَّبعية الحضاريَّة لا يمكن أن يتمَّ دون استعادة موقع الأخلاق في صُلب البناء الفكري. وقد ظهرت نظريات حديثة مثل “النظرية الائتمانية” لطه عبد الرحمن، باعتبارها محاولة لتأسيس إطار فلسفي أخلاقيٍّ ينبثق من الوحي ويتفاعل مع القضايا المعاصرة.

غير أنَّ هذا الحراك لا يُخفي وجودَ فجواتٍ بحثيَّة قائمة، من أبرزها نقص نوعيٌّ في الدراسات المنهجية التي تُقوِّي الطَّرح الأخلاقي الإسلامي في السياق المُعاصر من خلال ربط التراث الأخلاقي الإسلامي والنَّظريات الأخلاقيَّة الحديثة، سواء من حيث المفاهيم أو طرائق التنظير والتحليل وبناء استراتيجيات التنزيل. ومن بين الفجوات الأخرىٰ أيضًا: ضعف التَّفاعل مع علمِ النَّفس الأخلاقي، وقلة الدِّراسات المقارنة للأدب الأخلاقي في الثقافات المختلفة، والنَّقص في الربط بين التَّنظير الأخلاقيّ والممارسات الواقعيَّة في المجتمعات الإسلامية.

هذه الفجوات تفتح المجال أمام أسئلة بحثيَّة جوهريَّة، من قبيل: كيف يمكن استثمار التراث الإسلامي في بناء نظريات أخلاقية مُعاصرة؟ وما موقع القيم الإسلامية في الجدل العالمي حول الفضيلة والسلوك؟ وكيف يمكن تجاوز الهُوة بين الأخلاق المعيارية والوصفية في الحياة العملية؟

موسوعة الأخلاق: البنية والمضامين

جاء كتاب “موسوعة الأخلاق” لخالد بن جمعة الخراز، الصادر في طبعته الأولىٰ سنة 2009، في إطار المسعىٰ لإعادة إحياء منظومة الأخلاق الإسلامية، وجمع تراثها النَّظري والعملي في مؤلَّفٍ موسوعيٍّ مبسّطٍ وشامل. ويقع الكتاب في نحو 560 صفحة، ويغطي طيفًا واسعًا من المفاهيم الأخلاقية التي تمس مختلف جوانب الحياة.

قسّم المؤلف كتابه إلىٰ خمسة أبواب رئيسة، تبدأ بمداخل نظرية تشمل تعريف الأخلاق وأهميتها وأنواعها، إلىٰ جانب بيان خطورة الأخلاق السيئة وآثارها، وشرحٍ لثمرات التَّحلِّي بالفضائل، وطرق اكتسابها. ويرسي هذا القسم التمهيدي الأساسَ المفاهيمي للعمل، ويؤكد الطَّابع التربويّ-الوعظي في مقاربة المؤلف للمادة الأخلاقية.

ثم ينتقل الخراز إلىٰ الباب الثاني، حيث يعرض في “السلوك القويم” إلىٰ الأدب مع الله في منهجٍ تفصيليٍّ لمفاهيم إخلاص النية، والتوكل، والرضا، مقرونةً بأمثلة من سِيَر الأنبياء. كما يتوسع في ذكر آداب التعامل مع القرآن الكريم، ومع الملائكة، ومع النبي ﷺ، ومع الصحابة الكرام.

أما الباب الثَّالث، فخصِّص لـ “الأدب مع الناس”، ويتناول فيه المؤلف العلاقات الإنسانية بمختلف مستوياتها: من علاقة الطالب بالمعلم، إلىٰ علاقة المسلم بغير المسلم، مرورًا بالوالدين، والأرحام، والجيران، والزملاء، والرؤساء، والخدم. ويَظهَر من هذا التَّنوع أنَّ الخراز يسعىٰ إلىٰ تقديم الأخلاق الإسلاميَّة بوصفها منظومة شاملة تعالج الحياة في جميع أبعادها الاجتماعية.

ويُحسب للكتاب تخصيص البابين الرابع والخامس لموضوعات غير تقليدية تُغني الكتابات الإسلامية المُعاصرة، وهما “الأدب مع الحيوان” و”الأدب مع البيئة”. ويُبرِز فيهما المؤلِّف توجيهات الإسلام في الرفق بالحيوان، والحفاظ علىٰ الطبيعة، والنهي عن الإفساد والتلوث. ويعطي هذا التوسع للعمل طابعًا شموليًا يتجاوز الأخلاق الفردية إلى منظومة الأخلاق الكونية.

 منهج المؤلف في موسوعة الأخلاق ومصادره

يتّبع خالد الخراز منهجًا استقرائيًا ذا طابع تربوي، يقوم أساسًا علىٰ جمع النصوص الشرعية (قرآنية وحديثية) المتعلقة بالأخلاق، وتصنيفها ضمن موضوعات محددة، ثم تبسيطها للقارئ العادي في أسلوب وعظيٍّ-إرشادي. يُبرز التزام المؤلف بالمنهج السلفي في استقاء الأحاديث، حيث يؤكد اعتماده علىٰ الصحاح، واجتنابه الرِّوايات الضعيفة، وإن كانت في فضائل الأعمال.

إلىٰ جانب النُّصوص الأصلية، يُكثر الخراز من الاستشهاد بأقوال الصَّحابة رضي الله عنهم والتابعين، ويضمّن كتابَه العديد من الحكم والأشعار والقصص، مما يُثري العرض، ويجعله قريبًا من وجدان المتلقِّي. ويمنح هذا المزج الكتابَ طابعًا تبليغيًّا متميِّزًا.

لكن؛ من النَّاحية المنهجية الأكاديمية، يبقىٰ الكتاب أقرب إلىٰ التَّوثيق الموسوعي منه إلىٰ التَّحليل النَّظري. إذ لم يسعَ المؤلِّف إلىٰ تأطير نظريٍّ مستقل، ولا إلىٰ تقديم معالجةٍ فلسفيَّة نقديَّة للمفاهيم، بل اكتفىٰ بتجميع الموروث وتصنيفه في تبويب واضح ومنظمٍ.

وقفة نقدية مع موسوعة الأخلاق: مكامن القوة ومواطن القصور

يمتاز كتاب “موسوعة الأخلاق” بعدد من الخصائص التي تجعله مرجعًا مُهمًا في بابه، خاصة للقارئ التربوي والداعية والمربِّي. من أبرز هذه الميزات:

• شمول التَّغطية الموضوعيَّة: قلّما نجد كتابًا يتناول هذا الكمّ من الفضائل والآداب في مجلد واحد، مما يجعله دليلاً عمليًا متكاملاً.
• الاستدلال بالنّصوص الشرعية: وهذا يعطيه مصداقيَّة في الأوساط الدينية، ويضمن الارتباط المباشر بالوحي.
• تنوُّع أساليب الإقناع: من نصوص وأمثال وحكم وقصص وأشعار، مما يسهِّل التأثير في المتلقي ويعزز البعد التربوي.
• الالتفات إلىٰ موضوعات يندر بحثها في إطار الدراسات الشرعية: مثل البيئة والحيوان مما يدل علىٰ وعي معاصر بقضايا الأخلاق الكونية.

في المقابل؛ يُمكنُ تسجيل مجموعةٍ من المُلاحظات علىٰ الموسوعة، تتعلق بعدم الانخراط في تحليل نقديٍّ معمَّق للمفاهيم الأخلاقية، ولا في مقارنة النظريات الإسلامية بغيرها. وكذلك عدم التطرق إلىٰ القضايا الأخلاقيَّة الحديثة، كأخلاقيات التقنية أو حقوق الإنسان، إذ توقَّف المؤلِّف -ويرجع هذا الأمر إلىٰ زمن إصدار الكتاب- بإطار تقليدي مستوحىٰ من التراث. كما تغيب عن الموسوعة الإشارة إلىٰ الدراسات الميدانية التي كانت موجودة حين صدورها، ونفس الأمر يقال عن الإحصاءات، أو المراجع الغربية المتخصصة في الأخلاق، مما يدفعنا إلىٰ فتح المجال أمام الباحثين للرَّفعِ من قيمتها البحثية عبر فتح النِّقاش التالي عن آفاق البحث في الموسوعة الأخلاقية.

البناء علىٰ موسوعة الأخلاق: آفاق بحثية مستقبلية

بالرغم من طابعها التَّوجيهي-الإرشادي، تُعدّ “موسوعة الأخلاق” نقطة انطلاق واعدة لبحوث أكاديمية جديدة، تتجاوز التبويب الحالي إلىٰ التَّحليل النَّظري والتَّطبيق المعاصر. ومن أبرز الاتجاهات البحثية الممكنة:

• التأصيل المقارن للأخلاق الإسلامية: من خلال المقارنة بين مفاهيم الفضيلة في الإسلام وفي نظريات مثل الفضيلة الأرسطية أو أخلاقيات الكونفوشيوسية، يمكن إبراز خصوصيات النموذج الأخلاقي الإسلامي وموقعه في الحوار العالمي.
• دمج الأخلاق الإسلامية بعلم النفس الأخلاقي: فالمفاهيم العملية الواردة في الكتاب (مثل مجاهدة النفس ومحاسبتها) يمكن دراستها في ضوء نظريات تكوين السلوك، لتطوير برامج تربوية تمزج بين التقاليد الدينية والنظريات المعرفية السلوكية.
• تحليل الأبعاد الأدبية للأخلاق: بالنظر إلى توظيف الخراز للأدب والشعر، يمكن إجراء دراسات مقارنة في تجليات القيم الأخلاقية بين الأدب الإسلامي والأدب العالمي.
• أخلاقيات الإسلام والتقنية الحديثة: يمكن استثمار ما ورد في الموسوعة من أخلاق إسلامية لتقديم إطارٍ أخلاقيٍّ إسلاميٍّ موجِّهٍ لسلوك الإنسان في العالم الرقميِّ.

خاتمة

في المُجمل؛ تمثِّل “موسوعة الأخلاق” لخالد الخراز إضافةً نوعيَّة في جمع وتأصيل الأخلاق الإسلاميَّة بأسلوبٍ موسوعيٍّ مبسَّط، لكنَّها تفتح في الآن ذاته أبوابًا متعدِّدةً أمام الباحثين لتعميق الفهم النَّظريِّ للأخلاق الإسلاميَّة، وتوسيع دائرتها نحو مقاربة المشكِلات المعاصرة، وبناء جسور تواصلٍ مع الفكر الأخلاقيِّ العالميِّ.

إنَّ علمَ الأخلاق اليوم بحاجة إلىٰ تفاعلٍ حيٍّ بين التُّراث والواقع، والباحث الأكاديميُّ مدعوٌّ لتجاوز التَّجميع إلىٰ التركيب، وللانتقال بالنُّصوص القرآنية من نزولها إلىٰ تنزيلها علىٰ واقع النَّاس، وبالأحاديث النبويَّة من ورودها إلىٰ إيرادها في مسالك التَّطبيق والهداية، وبهذا تحفظ الأخلاق الإسلامية أصالتها وتواكب العصر.