دستور الأخلاق في القرآن لعبد الله دراز: تحليل وآفاق بحثية

قراءات في المكتبة الأخلاقية الإسلامية والعربية

0 تعليقات 52 مُشاهدة 7 دقائق قراءة

نصُّ المقال:

مدخل: في الحاجة إلىٰ تأسيس علم الأخلاق القرآنيَّة

يُعتبر كتاب “دستور الأخلاق في القرآن” للفقيه والمفكر عبد الله دراز -رحمنا الله وإيَّاه- (1894–1958) أحدَ أهمِّ الإسهامات الفكرية التي سعت إلىٰ إعادة تأصيل علم الأخلاق في السِّياق الإسلاميّ، من خلال مرجعيَّة قرآنيَّة خالصةٍ، ومقاربةٍ فلسفيَّة متينة، تجمع بين أصالة المصدر ورصانة التَّحليل. فقد جاء هذا العمل في سياق مشروعٍ فكريٍّ طموح استهدفَ بشكلٍ أساسٍ إقامة البُرهان علىٰ أنَّ القرآن الكريم لا يُقدّم تعاليم دينية فحسب، بل ينطوي علىٰ منظومة أخلاقيَّة متكاملة، تحملُ في طيَّاتها مُقوِّمات التَّأسيس النَّظري، مع قوَّةٍ فريدةٍ علىٰ الحوار مع النظريات الأخلاقية الغربية الكبرىٰ.

ويمكن القول إنَّ دراز قدّم بهذا الكتاب محاولةً فريدةً لبناءِ علم الأخلاق علىٰ أساس قرآنيٍّ، وقد استطاع أن يربطه بمفاهيم الإيمان، والعبادة، والمسؤولية، والعقل، والجزاء، كما استطاع إظهار البعد الإنسانيِّ الكونيِّ لأخلاقيات الإسلام، دون أن يتنازل عن المرجعية الدينية الإلهية.

لقد كانت أطروحته في الأصل باللغة الفرنسية، أنجزها في جامعة السوربون عام 1947، بعنوان: La morale du Coran، ثم تُرجمت إلىٰ العربيَّة لاحقًا تحت عنوان “دستور الأخلاق في القرآن”، وإنَّ قراءة هذا الكتاب بعد مرور عقود علىٰ نشره تكشف عن أبعادٍ تأسيسيَّة لم تكتمل بعد في الفكر الإسلاميِّ المعاصر، وتطرح أسئلةً تتعلق بمنهج بناء النَّظرية الأخلاقيَّة، وحدودِها، وتطبيقاتِها، وعلاقتها بالواقع. ولهذا نسعىٰ في هذه المقالة من سلسلة قراءات في المكتبة الأخلاقية الإسلامية والعربية إلىٰ تقديم قراءةٍ تحليليَّة نقدية للكتاب، مع استجلاء مرتكزاته، وتحليل منهجه، وبيان إسهاماته وحدوده، دون أن ننسىٰ استشرافَ المسارات البحثية الممكِنة.

البنية العامة للكتاب ومضامينه

جاء كتاب “دستور الأخلاق في القرآن” لعبد الله دراز في صيغةٍ مركَّبة تمزج بين التَّأصيل النَّظري والتَّحليل التطبيقيِّ، ضمن رؤيةٍ تسعىٰ إلىٰ بناء علم أخلاق إسلامي متكاملٍ يستمد مرجعيته من القرآن الكريم، ويُحاور في ذات الوقت النظريات الأخلاقية الكبرىٰ في الفلسفة الغربية الحديثة. وقد قسّم المؤلِّف كتابه إلىٰ قسمين كبيرين، يضمّان في مجموعِهما عشرة فصول، خمسة منها نظريَّة وأخرىٰ تطبيقيَّة، تليها خاتمة ختامية وفهارس علمية متنوعة، وفيما عرضٌ تفصيليٌّ لبنية الفصول وعرضٌ موجزٌ لمضمونها:

ويُمكن التعبير عن فحوىٰ هذا القسم ببناء المنظومة الأخلاقيَّة في القرآن، يتضمّن هذا القسم خمسة فصول تأسيسيَّة تمثّل أعمدة النَّظرية الأخلاقيَّة القرآنية كما استخلصها دراز:

1-الإلزام الأخلاقيّ

يبحث عبد الله دراز في هذا الفصل في مصدر الإلزام في النِّظام الأخلاقيِّ القرآنيِّ، مُبيِّنًا تجاوُز القرآن الكريم للتَّفسيرات الوضعيَّة والنَّفعية. فالقرآن، حسب دراستِه، لا يُقدِّم الأخلاق باعتبارها جَبرًا قهريًًا، بل باعتبارها تكليفًا واعيًا ينبني علىٰ الإرادة الحُرة. كما يُبرز دراز في هذا الفصل الخصائصَ العامَّة للخطاب القرآني، من قبيل التَّدرُّج، واليُسر، والمساواة، والانسجام مع الفطرة الإنسانيَّة، مميِّزًا بين الأحكام التَّعبُّديَّة والخلقيَّة، وبين الدَّوافع الخارجيَّة والداخليَّة.

2-المسؤولية

يحلِّل هذا الفصل مفهوم المسؤوليَّة باعتباره أساسًا أخلاقيًّا قرآنيًّا، استطاع أن يربط بين الوعي والحرية والمحاسبة. ويرىٰ دراز أنَّ المسؤولية الأخلاقيَّة في القرآن الكريم مشروطةٌ بثلاثة عناصر: الإدراك، والقدرة، والحرية. وعليه؛ فإنَّ الخطاب الأخلاقيَّ القرآنيَّ موجَّه إلىٰ الإنسان الحُرِّ القادر، لا إلىٰ العاجز أو المُكرَه. وهٰهنا يبرُز مبدأ العدل المطلق في التَّكليف القرآنيّ: ﴿لا يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها﴾[البقرة: 286]

3-الجزاء

خُصِّص هذا الفصل لدراسة العلاقة بين الفعل الأخلاقيِّ والجزاء الأخرويِّ. فيُبين دراز أنَّ القرآن قد ربط بين السُّلوك الأخلاقيِّ ومبدأ الثَّواب والعقاب، دون أن يجعل من الجزاء أداةَ ترهيبٍ فقط، بل اعتبره امتدادًا طبيعيًا لحركة النَّفس نحو الكمال. كما يقدِّم تحليلًا فلسفيًّا للجزاء بوصفه ترجمةً لقيمة العمل في ميزان الحقّ، ويرىٰ أنَّ الجزاء في التَّصوُّر القرآنيِّ يحافظ علىٰ كرامة الإنسان ولا يمسُّها.

4-النية والدوافع

يتناول دراز في هذا الفصل مركزيَّة النيَّة في المنظومة الأخلاقيَّة القرآنيَّة، من حيث كونُها المعيارَ الحقيقيَّ في تقويم الأفعال. ويُحلِّل التَّمييز بين الفعل الظَّاهر والباعث الباطنيِّ، مؤكدًا أنَّ القرآن يُعلي من قيمة القصد والإخلاص، كما يُدين الرِّياء والنِّفاق. ويربط المؤلِّف هذا بمنطق المسؤوليَّة الفردية أمام الله، حيث “السِّر كالجهر”، ومن هنا يظهر مفهوم “المراقبة الإلهيَّة” كعنصر مركزيٍّ في صياغة الضَّمير الخُلقي.

5-الجُهد

في هذا الفصل، يُحلِّل دراز قيمة الجُهد والعمل والمجاهدة في بناء الشخصيَّة الأخلاقيَّة، ويرىٰ أنَّ الأخلاق ليست مجرد تأمُّلات ذهنيَّة، بل جُهدٌ متواصلٌ يُترجَم إلىٰ التزامٍ سلوكيٍّ. ويستعرض أنواع الجُهد في القرآن: جهدٌ في مواجهة النَّفس والهوىٰ، وجهدٌ في إصلاح المجتمع، وجهدٌ في إقامة العدل، وجهدٌ في العبادة… إلخ. ويقدّم تصوُّرًا للعمل الأخلاقيّ كـ “جهاد” في سبيل القيم، لا يكتمل إلَّا بالإصرار والمثابرة.

 ويُمكن التَّعبير عن فحوىٰ هذا القسم بالتطبيقات العمليَّة للأخلاق القرآنيَّة، فبعد تأسيسه للبنية النَّظرية، ينتقل المؤلِّف إلىٰ هذا القسم التَّطبيقي، حيث يُفصّل أبرز مظاهر الأخلاق في العلاقات الاجتماعيَّة المتعددة، وذلك من خلال الفصول الخمسة الآتية:

1- الأخلاق الفردية: ويعالج فيه القيمَ المرتبطة بالضَّمير الذَّاتي، كالصدق، الأمانة، العفة، الصبر، التواضع…

2- الأخلاق الأسرية: ويتناول فيه العلاقات بين الزَّوجين، والوالدين، والأبناء، مقرونًا بقيم الرَّحمة والبرِّ والإحسان.

3- الأخلاق الاجتماعية: ويُبرز قيم العدل، والتَّكافل، والإيثار، والتَّعاون، في بناء الجماعة المؤمنة.

5- أخلاق الدَّولة والسُّلطة: حيث يُحلل شروط الحاكم العادل، وواجبات الرعية، ومسؤوليات الحكم، في إطار أخلاقي.

6- الأخلاق الدينية: ويتناول فيه علاقة الإنسان بخالقه من حيث الإيمان، والتقوى، والعبادة، ومكارم العبودية.

يختم درَّاز كتابه بخاتمة تركيبية تؤكِّد أنَّ الأخلاق في القرآن ليست تجميعًا لفضائل مشتَّتة، بل هي منظومةٌ متكاملةٌ تنطلق من تصوُّرٍ للكون والإنسان والخالق، وتُجسّدها الشَّريعة في حركة عمليَّة، وتُثبِّتها العقيدة في وعي المؤمن.

ومن البديهيِّ أن يضمّ هذا الكتاب النَّفيس فهارس علمية شاملة (للموضوعات، الآيات، الأحاديث، المصطلحات، الأعلام)، ما يجعله مرجعًا مفيدًا للباحثين وطلبة العلم.

المنهج المتّبع ومصادر التَّأصيل

يتميَّزُ كتاب دراز بمنهجٍ تركيبيٍّ فريدٍ، يُزاوِج بين الفهم العميق للنَّص القرآنيِّ والتَّحليل الفلسفيِّ المقارن. فالمؤلِّف يقرأ الآيات لا باعتبارها نصوصًا تعبّدية أو طقوسيَّةً معزولة، بل كمكوّنات في بنية فلسفيَّة متكاملة. وتظهر مهارته في المزاوجة بين البيان القرآنيِّ والمنطق الفلسفيِّ، ولهذا تجد الكتاب غنيًّا بسجالاتٍ واعيةٍ وعميقة مع أطروحات كانط، وهيوم، وسبنسر، ومسكويه، والغزالي.

كما أنَّ دراز توسَّل منهجًا نقديًًا استطاع من خلاله أن يُميِّزَ بين الثَّابت والمتغيِّر، بين الجوهر الأخلاقيِّ والشَّكل الثَّقافيِّ، ويتبنّىٰ نظرةً وظيفيَّةً-مقاصديَّةً للأحكام، ممَّا يجعل تحليله يتجاوز ظاهر النَّص إلىٰ بنائه الدلالي العميق.

وقد استند المؤلِّف في تأصيله إلىٰ القرآن الكريم كمرجعٍ أوَّل، مع استحضارٍ للسُّنة النبوية، والمأثور من أقوال العلماء المسلمين، لكنَّه حرص مع كُلِّ ذلك علىٰ تقديم قراءةٍ عقلانيَّة تأويليَّة للآيات ذات الطَّابع الأخلاقي.

وقفة نقديَّة مع دستور الأخلاق في القرآن: مكامن القوة ومواطن القصور

مكامن التميز:

  • التَّأصيل النظري الرَّصين: لا يكتفي دراز بجمع الفضائل الأخلاقيَّة، بل ينطلق من أسئلةٍ فلسفية عميقة تتعلق بالإرادة، والمسؤولية، والجزاء، ويقدّم أجوبة قرآنية تندمج فيها الغاية بالمصدر.
  • المنهج المقارن المتين: يُعدّ دراز من أوائل من قارَنوا بين التَّصور الإسلاميِّ والنَّظريات الأخلاقيَّة الغربيَّة الكبرىٰ في سياق أكاديميٍّ، دون أن يفقد انتماءه المرجعيّ، ودون أن يقع في إسقاط أو اختزال.
  • أولوية العقل الأخلاقي: يُعلي درَّاز من شأن العقل في تلقي الخطاب الأخلاقي القرآنيّ، فيرفض كل صور التَّلقين أو الإكراه، ويؤكِّد أنَّ الإيمان والامتثال لا يكتملان إلا بالاختيار الحر.
  • ربط الأخلاق بالكونيَّة: يُظهِر الكتاب حرصًا واضحًا علىٰ إبراز الطَّابع الإنسانيِّ الكونيِّ للأخلاق الإسلامية، إذ لا يعتبرها خُلقًا لجماعة دون أخرىٰ، بل رسالة للإنسان من حيث هو كائن عاقل مسؤول.

مواطن القصور

علىٰ الرغم من القيمة الكبرىٰ للكتاب، يُمكنُ تسجيل مجموعةٍ من المُلاحظات بشأنه، ومنها:

  • ضعف البعد التطبيقي: استحوذ علىٰ الكتاب الطابع النظري الفلسفي، مع نقصٍ واضح لتطبيقات معاصرة، أو تحليل واقعي للممارسات الأخلاقية في المجتمع الإسلامي.
  • تجاوز بعض الأبعاد السلوكية: بحكم التزامه بالإطار الفلسفي، لم يفصّل دراز في السلوكيات الأخلاقية اليومية، ولا في الأخلاق المهنية، أو العلاقات البينية في المجتمع.
  • ضمورٌ نسبي لعلم النفس الأخلاقي: لم ينل الجانب النَّفسي في تكوين الضَّمير وتشكّل الفضائل ما يستحق من الاهتمام، رغم صلته الوثيقة بمنظومة الأخلاق.

ومع ذلك، فإنَّ هذه الملاحظات لا تُنقص من قيمة الكتاب، بل تفتح الباب لاستكمال ما بدأه المؤلف، والبناء علىٰ أطروحته في اتجاهات جديدة.

آفاق بحثية ممكنة

في تقديري؛ ينفتح كتاب “دستور الأخلاق” علىٰ آفاقٍ واسعةٍ للبحث الأكاديمي المتخصِّص، منها:

مقارنة فلسفيَّة بين دستور الأخلاق ونظرية كانط

يمكن إجراء دراسة مقارنة أكثر عُمقًا بين نظريَّة دراز الأخلاقية والتصور الكانطي، لا سيما في مسألة الإلزام والمصدر والغاية. فما الذي يميز التَّصور القرآني عند دراز عن فكرة “الواجب الخالص” عند كانط مثلًا؟ وكيف تُقوَّم الأفعال في كلا المنظورين؟

الأخلاق القرآنية وعلم النفس الأخلاقي

ويمكن هٰهنا دراسة الجوانب النَّفسيَّة في الأخلاق القرآنية كما شرحها دراز (النية، الدافع، المجاهدة، التدرج…) وربطها بنظريات التعلُّم السلوكي وتكوين العادات، لفهم آليات تشكُّل الضمير الأخلاقي عند الفرد المسلم.

استلهام دستور الأخلاق لبناء مناهج تربوية

أعتقد أنَّه بالإمكان إعداد إطار تربويٍّ متكامل قائم علىٰ الأخلاق القرآنيَّة كما نظّر لها دراز، علىٰ أن يكون أساسًا لمناهج تعليمية حديثة تُعلِّم القيم من خلال الربط بين المفهوم والدافع والغاية.

تحليل الخطاب الأخلاقي القرآني بلغة العلوم الإنسانية

وذلك باستخدام أدوات تحليل الخطاب، ونظريات الأخلاق التداولية، والأنثروبولوجيا الأخلاقية، لتفكيك وتحليل البيان الأخلاقي في القرآن كما عرضه دراز، ومحاولة تجديد قراءته ضمن مساقات العلوم الاجتماعية.

خاتمة

يمثل كتاب “دستور الأخلاق في القرآن” حجر زاويةٍ مكينٍ في الفكر الأخلاقيِّ الإسلاميِّ الحديث، إذ استطاع أن يربط المرجعيَّة القرآنيَّة بالتأصيل الفلسفي، ويعيد تقديم القرآن بوصفه مرجعًا أخلاقيًا كونيًا. وإنَّ القراءة الأكاديميَّة لهذا الكتاب لا تكتفي ببيان ما جاء فيه، بل تدعو إلىٰ استثماره في بناء مشاريع معرفية جديدة، تُفعِّل الأخلاق القرآنية في واقع المسلمين وتربطها بالتحوُّلات الإنسانية المعاصرة.

وأخيرًا؛ فإنّ المسؤولية الآن تقع على عاتق الباحثين والطلبة المقبلين علىٰ تسجيل أطروحاتهم لتجديد الحوار مع هذا النَّص المرجعيِّ، واستثمار ثرائه في تطوير مناهج تربوية، وسياسات عامة، وأطر نظرية، تُعيد للأخلاق موقعها المحوري في العمران البشري.

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00