مقدمة
لم يعد النشر العلمي محصورًا في النَّماذج التَّقليدية، التي كانت تعتمد بالأساس علىٰ الاشتراكات الورقية أو دعمٍ مِن جهاتٍ مؤسسية، بل انتقل تدريجيًا إلىٰ فضاء إلكترونيٍّ مفتوح، ممَّا فرض تحوُّلات جذرية في طريقة إنتاج المعرفة وتوزيعها. وفي ثنايا هذا الانتقال، برز نموذج “النشر مقابل رسوم” (Article Processing Charges – APCs) كخيارٍ اقتصاديٍّ يسعىٰ لضمان استدامة النَّشر العلميِّ، خصوصًا في سياق ما أصبح يُعرف بالمجلَّات ذات الوصول المفتوح. ولكن؛ أثار هذا النموذجُ العديد من الإشكالات، في مقدمتها مجموعةٌ مِن التَّساؤلات حول مدىٰ تأثيره علىٰ مصداقية المجلات العلمية، وما إذا كان يكرّس نوعًا من “التَّسليع” للمعرفة العلمية.
وأكتب اليوم هذا المقال بعد أن طرحتُ علىٰ منصة الفيس بوك سؤالا للباحثين حول هذا الموضوع، فتبيَّن لي من خلال مُشاركةِ مجموعةٍ مِن الزُّملاء أنَّ النَّظر في هذه القضية يتمُّ -أحيانًا- من منظور أُحادي قد يؤدِّي إلىٰ استنتاجات غير دقيقة، الأمرُ الذي يتطلب تحليلًا متعدِّد الأبعاد يأخذ بعين الاعتبار الأُطُر الاقتصادية، والبنىٰ التنظيمية للمجلات، وكذا التطورات التكنولوجية في عالم النشر العلمي.
النشر العلمي: ضرورة مؤسساتية ومعرفية
إنَّ النشر العلمي ليس مجرد وسيلة لتقاسم نتائج البحوث، بل هو آلية مركزية في دورة البحث العلمي، تضمن التوثيق، والمصداقية، وخضوع النتائج للفحص العام، كما يُعدّ النشر العلمي حجر الزاوية في عمليات الترقية الأكاديمية، والحصول علىٰ التمويلات، وتكوين الشبكات البحثية الدولية.
كما أنَّ النشر العلمي دورٌ كبير في جعلِ البحث عملية اجتماعية ومؤثرة، قادرة علىٰ توليد المعرفة وتداولها وتطويرها بشكل مستمر. وهذا الدور الجوهري للنشر يعزز من الحاجة إلىٰ أن تكون قنواتُه -وهي المجلات العلمية- مُتصفة بمجموعة من المواصفات التي تجعلها في هذا المُستوىٰ من التطّلُّعات، ومن تلك المواصفات: أن تكون قويَّة، مستقلة، وقادرة علىٰ مقاومة الضغوط التي قد تُمارس عليها من جهاتٍ مؤسساتية أو إيديولوجية، وهو ما يستلزم تمويلاً: مُستقلًّا، ومستقرًا، ومستدامًا.
رسوم النشر العلمي: استجابة بنيوية لتحولات اقتصاد المعرفة أم خللٌ مؤسسيٌّ؟
من المغالطات الشائعة اعتبارُ أنَّ فرض رسوم علىٰ المؤلفين دليلٌ علىٰ انعدام المصداقية ودليلٌ علىٰ المُتاجرة بالبحث العلمي لأجا تحقيق الربح. بينما الحقيقة التي لا يكاد يختلف حولها اثنان تُفيدُ أنَّ المجلات العلمية تواجه اليوم تحديات مالية حقيقية، خاصة في ظل انخفاض الاشتراكات المؤسسية واتساع مطالب الوصول المجاني للمحتوىٰ.
وفي سياق تفكيري بإصدار مجلة علمية إلكترونيَّة بمركز رُبىٰ للدِّراسات والأبحاث والتدريب التَّربوي، بدأتُ أعدُّ أرضيَّةً علميَّةً، وكذلك خطَّةً تمويليَّةً مستقلَّة للمجلة، وبعد الانتهاء من ذلك، تبيَّن أن التكاليف الحقيقية للنشر تتجاوز مجرد تحميل مقال علىٰ منصة إلكترونية (كما كنت أعتقد)، إذ تشمل عمليات التحكيم العلمي، والتحرير، والتدقيق اللغوي، والتصميم، والإخراج الفني، وإدارة بيانات المؤلفين، والأرشفة الرقمية، وتوليد المعرِّفات الرقمية مثل DOI، فضلاً عن متطلبات الأمان السيبراني… وبعد إعدادِ تقريرٍ مفصَّلٍ مع الخبراء تبيَّن أنَّ إصدار المقال الواحد في المجلَّة سيُكلِّفُ ما بين 600 إلىٰ 800 دولار حين نشره، وليستمرَّ تواجدُه علىٰ الشبكة سيكلِّف الأمر المجلَّة ميزانيَّةً ستزداد كلما ارتفع عدد المجلدات والأعداد بهذه المجلة.
ولذا فإنَّ المجلات التي تختار نموذج “الدفع مقابل النشر” لا تفعل ذلك بالضرورة طلبًا للربح، وإنما قد تفعلُ ذلك كآلية تمويليَّة لاستدامة بنيتها التحتية وخدماتها التحريرية.
لكن لابدَّ من التمييز الحاسم بين المجلات الرصينة والمجلات المتاجِرة والمجلات المفترسة
أعتقد أنَّ كثيرًا مِمَّن يتبنَّون مواقف سلبيَّة من رسوم النَّشر، يخلطون بين المجلات الرَّصينة التي تعتمد نموذج الرسوم، والمجلات “المفترسة” التي تستغله لتضليل الباحثين. فأوَّل علامات المجلات المفترسة أنَّها تفتقر إلىٰ آليات تحكيم جاد (لا مِن حيث مُدَّة التحكيم، ولا مِن حيث جودته…) ولذلك تقوم بنشر أي محتوىٰ دون أيِّ اعتبار لقيمته العلمية شريطةَ أن يُدفع ثمنه، في حين أنَّ المجلات الرصينة المدرجة ضمن قواعد البيانات المعترف بها (مثل Scopus، Web of Science، DOAJ) تفرض تحكيمًا علميًا مزدوجًا صارمًا، وتلتزم بمدونات سلوكٍ صارمة مثل تلك التي تصدرها لجنة أخلاقيات النشر (COPE). وبناءً عليه فإنَّ أن جودة النشر في مجلات الوصول المفتوح التي تعتمد رسومًا لا تقلّ عن نظيراتها الاشتراكية من حيث معايير التحكيم ونسب القبول. بل إنَّ العديد من المجلات المصنفة في Q1، ، تتبنى هذا النموذج، مما يدحض الزعم بأن فرض الرسوم يتعارض مع الجودة.
الاستقلالية التحريرية تبدأ من تمويل غير خاضع للضغوط
يُعدُّ الإكراه الايديولوجي من أكبر الإكراهات التي تواجه البحث العلمي، منذ خطواته الأولى ثم مرورا بأدواته التي علينا أن نتساء عن مدى حياديتها وانتهاء بنتائجه، وفي هذا السياق فإن من أبرز مزايا نموذج رسوم النشر أنه يوفر للمجلات مصدر تمويل مستقل، يقلل من ارتهانها لتمويلات أيديولوجيَّة قد تؤثر في خياراتها التحريرية. ففي غياب تمويل ذاتي، قد تجد المجلات نفسها مضطرة لإرضاء الجهات الداعمة، الأمرُ الذي يؤثر سلبًا في حرية النشر والتقييم العلمي.
وعليه؛ فإن المجلات التي تتمتع بتمويل ذاتي تكون أكثر قدرة علىٰ حماية استقلالها التحريري وتطبيق سياسات عادلة وشفافة. غير أنَّ هذه الاستقلالية مشروطة بالشفافية المالية، إذ ينبغي للمجلات أن تنشر معلومات واضحة حول كيفية استخدام رسوم النشر، وآليات التحكيم، وحقوق المؤلفين، بما يعزز من مصداقيتها أمام المجتمع العلمي.
تكاليف النشر الإلكتروني: واقع معقد يتجاوز التصورات الشائعة
أشرتُ سابقًا إلىٰ نتائج دراسة إصدار مجلة علمية بمركز رُبىٰ، وهو ما يُبيِّن أنَّه من الأفكار المغلوطة المنتشرة في الأوساط الأكاديمية أن النشر الإلكتروني مجاني أو منخفض التكلفة، بحكم عدم وجود تكاليف للطباعة والنقل. لكن الواقع أنَّ النَّشر الرقميَّ عالي الجودة يتطلب استثمارات معتبرة في البنية التحتية التكنولوجية، تشمل تطوير المنصات، صيانتها، أرشفتها، ربطها بمعايير الاقتباس الدولية، وتوفير تجارب مستخدم سلسة.
أمَّا علىٰ المُستوىٰ الدَّولي؛ فإنَّ بعض المقالات العلمية تؤكد أن تكلفة المقال الواحد في المجلات الإلكترونية الرصينة قد تتراوح بين 1000 و3000 دولار حسب الخدمات المقدمة، ما يعكس العبء الاقتصادي الكبير الذي تتحمله هذه المجلات.
الثقة في النشر العلمي لا تبنى على نموذج التمويل وإنما على آليات التقييم
أيضًا من الخطأ تقييم مصداقية مجلة علمية علىٰ أساس نموذجها المالي، سواء كانت مجانية أو مدفوعة، بل ينبغي النَّظر ابتداءً إلى جودة التحكيم، وشفافية الإجراءات، ومدى إدراجها في قواعد البيانات المعتمدة، والتزامها بالمعايير الأخلاقية. وفي هذا السياق، ينبغي تعزيز ما يسمى بـ”ثقافة النشر المسؤول”، من خلال تدريب الباحثين علىٰ مهارات تقييم المجلات، وتضمين هذا التكوين ضمن برامج الماستر والدكتوراه.
مستقبل النشر العلمي: نحو نماذج تمويل هجينة ومستدامة
إن الاتجاه المستقبلي للنشر العلمي يتجه نحو نماذج تمويل هجينة، تمزج بين الدعم المؤسسي، ورسوم النشر، والدعم الحكومي، والتمويل عبر التحالفات الدولية. ففي أوروبا مثلاً، تبنت العديد من المبادرات (كخطة S وCoalition S) آليات لدعم النشر المفتوح دون تحميل الباحثين الأعباء المالية المباشرة. في المقابل، لا بد من تطوير صناديق تمويل إقليمية في العالم العربي، لدعم المجلات المحلية ذات الجودة العالية، بما يحول دون اضطرارها للاعتماد على ممارسات تجارية تضرّ بمصداقيتها، ويعزز من قدرتها على التنافسية في سوق النشر العالمي.
خاتمة: نحو فهم أكثر نضجًا لرسوم النشر كأداة للتمكين لا وسيلة للاستغلال
إنَّ النشر العلمي مقابل رسوم ليس إشكالًا أخلاقيًا أو معرفيًا بحد ذاته، بل هو أداة تمويلية قد تتيح للمجلات الاستقلال والاستمرارية إذا ما تم تنظيمها بشفافية وبضوابط صارمة. ولكن يظل التحدي الأكبر هو التمييز بين المجلات التي تستثمر الرسوم في تعزيز جودة المحتوى وإتاحته للجمهور، وتلك التي تستغلها لأغراض تجارية محضة. ومن هنا تنبع الحاجة إلىٰ سياسات واضحة من المؤسسات الأكاديمية، تدعم النشر المسؤول، وتُدرج التمويل كجزء من البنية التحتية للبحث العلمي، وتبني ثقافة تقييم نقدي للمجلات لا تنحصر في رسومها، بل في أثرها، وأمانتها، وجودة إنتاجها المعرفي.