إنَّ حجم الفجوة والجفوةِ بيننا وبين الإفادةِ من السِّيرة النَّبويَّة في مختلف الشُّؤون الحياتيَّة العامَّة واليوميَّة كبيرٌ جدًّا، ولعلَّهُ سيزداد إذا ما استمرَّ التَّعامُل مع السِّيرة النَّبويَّة بنفس المنهجية وعلىٰ هذا النَّحوِ الذي نراهُ اليوم.
وقد أسهمت في إحداث هذه الفجوة والجفوة عوامل عديدة، وعلىٰ رأسها الإشكالاتُ المنهجية التي تعتري الدِّراسات المُتخَصِّصة في السِّيرة النَّبويَّة، والتي أثَّرت سلبًا علىٰ طريقة إخراجها وتقديمها للمُتلقِّي، ونذكر من تلك الإشكالات علىٰ سبيل المثال:
- طغيانُ القراءة السِّياسيَّة والحركيَّة للسِّيرة النَّبويَّة: وذلك بالتَّمركُز حول المغازي والمعارك وربط الأحداث بها.
- طغيان السَّرد التَّاريخي لأحداث السِّيرة: والذي أدَّىٰ إلىٰ التَّسطيح في تناوُل أحداث السِّيرة العطرة، وسببُه التِّكرارُ القائمُ علىٰ مجرَّد الاستهلاك في طريقة القراءة واستدعاء الأحداث.
- التَّوسُّع في القراءة الإعجازيَّة للسِّيرة النَّبويَّة العطرة: وهؤلاء وإن كانوا ينطلقون مِن إيمانهِم الجازم بنُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّىٰ اللَّه عليه وسلَّم؛ إلَّا أنَّ تغليبَهم لهذه القراءة قد جعل السِّيرةَ تبدو في بعض الأحيان قريبةً إلىٰ الأسطورةِ الخارقة منها إلىٰ سيرةِ شخصِ النَّبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم، وكان لهذا الخلل دورٌ كبيرٌ في عدمِ تفعيل القراءة السُّنَنيَّة للسِّيرةِ وانتشارِ ما لم يثبُت مِن أخبارٍ ورواياتٍ سيريَّة.
لقد ظلَّت هذه الإشكالات وغيرُها -ليس المجال لذكرها ها هُنا- تُهيمِنُ علىٰ الدِّراسات السِّيريَّة ردحًا مِن الزَّمن، حتَّىٰ انعكست علىٰ مناهج التَّعليم وبالتَّالي علىٰ طريقة تدريس سيرة هذا النَّبي الكريم، وبحُكم أنِّي مُدرِّسٌ لمادَّةِ التَّربية الإسلاميَّة؛ وقفتُ غير ما مرَّة أُسائِلُ نفسي وأنا أحضِّرُ دروس السِّيرة: تُرىٰ هل هذه المعلوماتُ كافيةٌ لإحداث ذلك الفارق في حياة المُتعلِّمين حتَّىٰ نُحقِّقَ هدفَ الاقتداء والتَّأسِّي؟ وأرجعُ إلىٰ نفس المُساءلة وأنا أكتُب علىٰ السَّبُّورة عنوان درس السِّيرة، فأستدير وأنظُر في وجوه وأحوال هؤلاء التَّلاميذ، وأقفُ بُرهةً وأسأل نفسي: يا تُرىٰ؛ بأيِّ طريقةٍ ومنهجية يُمكن أن يتعرَّف هؤلاء علىٰ نبيِّهم فيحبُّونه كما أحبَّهُم؟
لقد شغلت هذه الهموم والأسئلةُ تفكيري منذ بدايةِ دراستي الجامعيَّة في ماستر التَّربية والدِّراسات الإسلاميَّة، ثُمَّ ازدادت أثناء اشتغالي بأطروحةِ الدُّكتوراه بعد أن اطَّلعت علىٰ تجارب دوليَّة في منهجية تدريسِ السِّيرة النَّبويَّة.
ولأنَّ الموضوعَ لم يستكمل بعدُ أسباب التَّأليف والنَّشر، فإنِّي أشاركُكم في هذه التَّدوينات مُقتطفاتٍ بعضُها جمعته مِن خلال الكُتب والمراجع الأكاديميَّة، والبعض الآخر عبارة عن تطبيقاتٍ تجريبيَّةٍ قُمت بها مع التَّلاميذ الذين درَّستُهم في مسيرتي المهْنيَّة، والبعض الآخر عبارة عن تأمُّلاتٍ وتجارب شخصيَّة في دراسةِ السِّيرة النَّبويَّة، وأثناء هذه التّجربة والبحث في الموضوع سطَّرتُ مجموعةً من القواعد التي أسأل اللَّه التَّوفيق والعون في تنظيمها وهيكلتها لتستويَ علىٰ الهيأة القابلة للنّشر بعون الله تعالىٰ.
وكانت من تلك القواعدِ قاعدة استرداد الإقامة النَّبويَّة، أي؛ الانتقال بمنهجيَّة تدريس السِّيرةِ مِن الطُّرق القائمة علىٰ الانتقال بالمتعلِّمين إلىٰ القرن الأوَّل وما قبله إلىٰ الطُّرق المؤدِّيَةِ إلىٰ استجلاب السِّيرة للواقع المُعاصِر، فيظلُّ النَّبيُّ صلَّىٰ الله عليه وسلَّم حينها مُقيمًا بيْنَ ظُهرانيْنا، إقامةً معنويَّةً هاديَةً ومُشاركةً في الفعل التَّربويّ.
وتُعدُّ القراءةُ التَّربويَّة للسِّيرة النَّبويَّة من أهمِّ المقوِّمات اللَّازِم توفُّرها مِن أجل تحقيق هذا الاسترداد، ولا يسعنا أن نقول: إنَّ ما بحوزتنا الآن مِن تلك القراءات التَّربويَّة يكفي ويفي بالغرض؛ بله أن نقول إنَّه يُفيد في جميع حالاته وأحواله.. وهنا يطرح السُّؤال نفسَه: كيف نقدِّم قراءةً تربويَّةً للسِّيرة النَّبويَّة مُنسجِمةً مع تصوُّر الاسترداد هذا؟
مبدئيًّا أقترح ما يلي:
أوَّلًا: الانطلاق مِن الجانب المعرفيّ مع تجاوُز حالة الجمود علىٰ المعلومة إلىٰ حالةِ أو مقامِ تحقيق الصُحبَةِ الرّوحيَّة (المعنويَّة) للنَّبيِّ الكريم، وها هُنا أساليب تعليميَّة تُساعِدُ علىٰ تحقيق الرُّؤية الوجدانية للأحداث السِّيريَّة التي لم يُكتب للمُتعلِّم أن يكون أحَدَ مُعاصِريها، ولعلَّني أشاركُكم بعض تلك الأساليب يومًا.
ولهذه الطَّريقة فوائدُ تربويَّة عظيمة، أهمُّها أن تنتقل من مُجالسةِ كُتب السِّيرة إلىٰ تحقيق المؤانَسةِ بها عوض الاستوحاش منها، فلا يقرأ المتعلِّم عن تلكُم الأحداث وحسب؛ وإنَّما يعيشها ويتأثَّرُ بها، ويُقلِّبُها في نفسه وعقله ويغوص في تفاصيلها، وبهذا لا يكون المتعلِّم مُشاركًا وفاعِلًا في بناء التَّعلُّمات فقط؛ بل تكونُ فاعِلًا لأنَّهُ جزءٌ مِن الحدث بحُكمِ الصُّحبة المعنويَّة للنبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثانِيًا: لا تفي الصُّحبةُ المعنويَّة بالغرض دون الانتقال إلىٰ المُصحابة التي تتجاوزُ الصُّحبة الآنية والظَّرفيَّة في قاعةِ الفصل إلىٰ المرافقةِ المتواصِلة لهذه السيرة، والامتدادِ بها عبر مختلَف الأزمنة والأمكنة، فيتعلَّمَ المُتعلِّمُ كيف يستحضرُ السِّيرةَ استحضارًا يجعلُها ميزانًا يَزِن به مختلف تفاصيل حياتِه اليوميَّة، ثُمَّ يرتقي المُتعلِّم بهذه المُرافقة السِّيريَّة إلىٰ المرافقة النَّبويَّة، ومِن خِلال برنامجٍ تطبيقيٍّ مُحكمِ الهندسةِ والبناء يُمكنُ أن يرتفع سقف الطُّموح عند المُتعلِّم ليُصبح طموحُه هو تحقيقُ أعلى قدرٍ مُمكنٍ مِن الموافقة بينَه وبين الهديِ النَّبويِّ.
ولنا أن نتصوَّر مقدار التَّهذيب والنَّشاط والفاعليَّة والدَّافعيَّة التي ستتميَّزُ بها شخصيَّة المُتعلِّم بعد هذه المصاحَبة والمرافَقة السَّاعية إلىٰ الموافَقة، وهو ما سيُمكنُّه من امتلاك مهاراتٍ سلوكيَّة دائمة التَّطوير.
ثالثًا: مِن خلال ما سبق؛ نفهم جيِّدًا أنَّ الموافَقة التي نسعىٰ إلىٰ تحقيقها لا تخصُّ أحداثًا بعيْنها أو شخوصًا أو أمكِنةً بذاتها… كلَّا؛ وإنَّما هي موافقةٌ في الفضيلة المؤسَّسة علىٰ قيمٍ خالدةٍ تمتلك في نفسِها القوَّةَ والقدرة علىٰ إعادة الأُمَّة إلىٰ مكانتها في الأفضليَّة بين النَّاس جمعاء.
ولا تتحَّقُ تلك الأفضليَّة بالبُعد المادِّيِّ وحسب؛ وإلَّا لكانت الحضارة الغربيَّة المُعاصرة الأفضلَ، بل إنَّ الأفضليَّة التي تحتاجُها الإنسانيَّة كافَّة بما فيها الغربيَّة؛ هي الأفضليَّة القائمة الفضيلةِ، ولا تكون الفضيلةُ فضيلةً إلَّا إذا حقَّقَت الأفضلَ للنَّاس جميعًا، وهذه من خصائص قيم الوحي الخالدة، وهنا نلمح البُعد الوجدانيَّ في التَّربيّة ماثِلًا أمامَنا، وهو ما يحتاج مِنَّا إلىٰ استخلاص منظومة القيمِ النَّبويَّة من السِّيرة النَّبوية.