تنويه:
كُتب هذا المقال بعد عملية اعتداءٍ على استاذ من طرف أحد تلاميذه سنة 2017م.
تتشابه ردود الفعل حَدَّ التطابق، وتزدوج المعايير إلىٰ حُدود الهوس والحمق والطيش الذي لا يكترث بالمستقبل الآجِل في ظل تفاعله العاطفي الخاطِف مع الحاضر العاجل…وليست قضية الاعتداء علىٰ الأستاذ من طرف تلميذه بِدْعاً من باقي القضايا التي تُثار في خانة منظومة التربية والتعليم.
إنَّ كُلَّ ما رأيناه من ردود الفعل إلىٰ حدود الساعة يَعكس بطريقة أو بأخرىٰ نفس الخلل في تعاملنا مع مثل هذه القضايا، مِمَّا يؤهلنا منذ البداية للتنبؤ بكل ما يمكن أن يحدث إذا أثيرت هذه القضية أو تلكمن جديد! فما سيحدث لن يحمل لنا شيئا جديدا؛ ما سيحدث لن يكون شيئا آخر غيرَ أن يتأجج الوضع ثم يصير بعد ذلك أقلَّ تأججا، لتعود القضية مع مرور الزمن وتتابع الأزمات إلىٰ الانحراف من جديد داخل الحلقة المفرغة نفسها: تعنيف الأستاذ المهضوم الحقوق، تعنيف التلميذ الضحية الأول للمجتمع، تماطل الوزارة وافتقارها لإرادة حقيقية لحماية الأستاذ والتلميذ… وهكذا.
ولست أطلب تَجاهلَ الأمر كأنَّه لم يقع، أبداً؛ فردُّ الفعل يظل أمرا ضروريا ولازما لتسجيل الموقف وإثبات الوجود، ولكن ما أطلبه إضافة إلىٰ ذلك شيئا من التريث والعمل علىٰ استحضار حوادث العنف السابقة وفهمِها علىٰ نحوٍ يُعيننا علىٰ المُواجَهَة والسعي نحو إيجاد الحلول.
لازلت أذكر كل نعوت السبِّ والشتم والتحقير التي وُجِّهت لأستاذة التعليم الابتدائي التي عَنَّفت تلميذها بمديرية طنجة أصيلة (وقس عليها الحالات المُماثلة)، واليوم؛ كلما قرأت التعليقات الشاتِمة والمستنكِرة والمعلِنة إفلاسَ المنظومة التعليمية، والمُسَفِّهة لكل الخُطط والبرامج التي وضعها القائمون علىٰ الشأن التربوي، (كلما قرأت ذلك) أعطف الحاضر علىٰ الماضي، لأجد في النهاية أنَّ التفريغ السيكولوجي هو سيد الموقف أولا وأخيرا.
وفيما يبدو لي؛ أنَّ كِلا الموقِفيَن يُقَصِّران جِدَّا في تعاطيهما للموضوع ويسيئان أكثر مما يحسنان، ذلك أنَّهما ينتصران للمُعَنَّف ويُلقيان باللوم علىٰ المُعَنِّف، وبهذا–عن وعي من هؤلاء أو من غير وعي- تُصبِح القضيةُ قضيةَ ضحيةٍ تَفرض الأجواء العامة والظروف السائدة مساندته وإظهار التعاطف معه… في حين ينسىٰ هؤلاء –أو لعلهم لا ينتبهون- أنهم في الحالتين معاً إنَّما ينكرون العُنف وينكرون تواجُدَه في مؤسَّسةٍ يُفترَض أن تضطلع بوظائف توسيع المعارف وتوسيع دوائر التفكير والتحليل والنقد والمراجعة إلىٰ جانب ترسيخ القيم، قيَمِ التعايش والانفتاح وإدارة الاختلاف وما يتطلبه من صيانة لتلك القيم والعمل علىٰ حمايتها ونبذ كل أشكال العنف والمصادمة والتطرف والغلو والتعصب…
وقد يوجد من بين القراء الآن مَن تبنّىٰ الموْقِفَيْن معاً في إبَّانهما أو علىٰ الأقل أَحَدَهما، ولهذا؛ فإني أُلفِت عنايتهم إلىٰ أنَّ هذه السطور هي للجميع، وإِنِّي لعلىٰ يقين من أنها ستُقابَل بشيء من الرَّفض من قِبَل البعض، خصوصا من قبل بعض الزملاء في مهنة التدريس… إِذِ الوضع كما يَرَوْن يستدعي المؤازرة والشجب والإنكار دون الغوص في أغوار المشكل والبحث والتدقيق بشأنه، ولذلك أُعلِن منذ البدء تعاطُفي ومُساندتي للأستاذ في وضعه الصِّحي مع إنكاري الشديد لما اقترفه التلميذ من ذنب وجريرة تستحق التأديب.
ولكني أضيف إلىٰ ذلك أيضا؛ أنني سأمضي في كِتابة ما أرىٰ أنه يستوجب النشر والمشاركة ولو في مثل هذه الظروف، فقد عَلَّمتنا مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية أنَّ الكتابات التربوية وإن كانت تعالِج مثل هذه القضايا البالغة الأهمية والمصيرية؛ فإنّها لن تنال ذلك القدر من الاهتمام الذي ستناله فضيحةٌ أو جريمةٌ تُثير زوبعةً إعلامية وزلزالا من المشاركات والتعليقات يهز أركان المواقع الاجتماعية، مُتجاهلين أنَّ كثيرا من تلك الفضائح والجرائم رُبَّما ما كانت أن تقع لو أسهمنا جميعا وبشكل إيجابي في نشر ذلك المقال الذي يتطرق لموضوع العُنف في الوسط المدرسي–مثلا- فرفعنا منسوب الوعي حوله، أو تشاركنا جميعاً خَبَرَ تلك التجربة الناجحة التي استطاعت التغلُّب علىٰ موضوع الشغب والعُنف داخل الفصل الدِّراسي، فأسهمنا في التعريف بها وتعميمها وتمليكِها لمختلف الفاعلين التربويين.
ولهذا أسأل: ألم يحن الوقت بعد أن نُغَيِّر من طريقة تعاملنا مع مثل هذه القضايا؟ ألا يُمكنناالآن في خِضَم هذه الأجواءالتي وصل فيها التفاعل مع القضية إلىٰ مداه الأقصىٰ، وبنوعٍ من الذَّكاء التربوي، أن نستثمر هذه الأوضاع لِنَصنع منها مِعْوَلَ بناءٍ بعدما أُريد منها أن تكون مِعْولَ هَدم؟
قد يبدو الأمر للبعض بعيد المنال، لأنه يرتبط ببناء ثقافة وتغيير زاوية الرؤية، ولكن؛ علىٰ الرغم من ذلك فإنَّ شرف المحاولة يُغري ويُحَفِّز، ورُبَّ أمرٍ يراه البعض بعيدا ويراه آخرون قريبا، وليس من فارق بينهما سوىٰ ذاك الإدراك والوعي بالطريق اللازم سلوكه للوصول إلىٰ النهاية التي يرغب فيها الطرفان معاً.
جذور الأزمة:
لن أزيد في هذا المقال علىٰ أن أزعُم -بكل ثِقَةٍ وبكل ارتياح في ضميري المهني والتربوي والأكاديمي- أنَّ هذه الأزمة إنما تعود في أصلها إلىٰ طبيعة العلاقة التي أصبحت تربط المُدَرِّس بمُتعَلِّميه، تلك هي العلاقة الميكانيكية القائمة علىٰ: يسأل الأستاذ ويجيب المتعلم من تحضيره، يطلب الأستاذ من المتعلم والأخير يُنَفِّذ… وتلك هي العلاقة التي تعاني ضغطا مُهوِلا من حيث الظروف المحيطة بالتعلم والهدر الزمني… وتلك هي العلاقة القائمة أساسا علىٰ العلامة التي سيحصل عليها المتعلم بعد أن يُختبَر في مدىٰ تمكُّنه من مجموعة من المعارف والمهارات دونما سعي جادٍّ وعملي إلىٰ تطوير التقويم التربوي ليشمل الجانب القيمي الذي يجب أن يُصاحِب التمكُّن من تلك المعارف والمهارات…
ولا يُمكنني في هذا المقام إلاَّ أن أُنَوِّه بالدعوة التي جاء بها المجلس الأعلىٰ للتربية والتكوين والبحث العلمي في تقرير التربية علىٰ القيم قائلا: ”علينا أن نطرح جانبا أنظمة التعليم التي تستلب الأفراد وتُعاملهم كالسِّلع،[…] لكَوْن تركيز العمل التربوي علىٰ الإعداد للحياة الاقتصادية لا يكفي لضمان عيش مشترك وكريم”.
هي إذن مسألة علاقة تربوية تجمع بين المُدَرِّس والمُتَعَلِّم، ومسألة أسلوب “تربوي” مُستورَد من الحقل الصناعي والاقتصادي أُدْخِلَ مجال التربية والتعليم، فأعطىٰ بعض النتائِج علىٰ المستوىٰ الثاني (التعليم) وقامَ بفصله عن المستوىٰ الأول (التربية)، فكانت النتائج التي نراها اليوم في مُخرجات برامج التربية والتكوين، والتي لا يُمْكِنُ حصرها في مظاهر تربويةٍ كالعُنف المدرسي وحسب؛ وإنما تعدَّت ذلك إلىٰ الحقل الصناعي والاقتصادي نفسه الذي تضرَّرَ بسبب ذلك الفصل أيما ضرر، ثُمَّ ما لبثت أن تعالت الصَّيحات إلىٰ ضرورة ربط التنمية بالقيم، واتَّجهت الكتابات المعاصرة في القيم إلىٰ تفسيرها وتبريرها انطلاقا من عائداتها الاقتصادية والتنموية…
حلٌّ ناجع، لكنه ماضوي: (لحسن الحظ)
إذا اتفقنا علىٰ هذا المُعْطَىٰ الذي قَدَّمته كأصلٍ تعود إليه هذه الأزمة؛ فالأمر يتطلب منا تَدَخُّلاً لإعادة هذه العلاقة التربوية إلىٰ مسارها الصحيح الذي يجب أن تكون عليه، ويقتضي منا هذا التدخل أن نُسائل الأساليب التربوية سواء السائدة أو المبثوثة في كُتب التربية وأساليب التدريس.
وهنالك سنجد أنا وأنت: التربية بالقُدوة، بالقصة، بالعِبرة، بالموعظة، بالممارسة والعمل، بالمجموعات… وستختلط علينا ها هنا المسميات، وسنجدها عناوين لكتب تتحدث عن أساليب التربية وطرقها ومهاراتها، كما سنجدها أيضا عناوين لفصولٍ أو مباحث من كتب تتناول موضع التربية والتعليم…
وفي النهاية سأستأذنك كما سأستأذن تلك الكتب جميعها؛ لأعود أدراجي إلىٰ نفسي وبنيةِ تفكيري الذي أجده منسجما تماما مع إيماني بوظيفتي كأستاذ ومُدَرِّس، وأثناء عودتي هذه لا أملك إلا أن أُغَيِّر لغة الخطاب، ولعلك تتفهم وضعي ما دُمت قد ذكرت تلك الكلمة “إيماني”.
أعود الآن إلىٰ أوراقٍ دَوَّنتها في الموسم الجامعي 2012م/2013م، بالمدرسة العليا للأساتذة حيث عكَفت ليالٍ ذوات العدد بمكتبة المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية، هناك؛ حيث لم يكن تدويني لهذه الأوراق مجرد إشباعٍ لفضول معرفي، وإنما كان استجابة لِحُلُمٍ لذيذ ومُغري طالما راودني عن نفسي ولا يزال، ذاك هو حلُم النظرية التربوية الإسلامية، حُلُمٌ نابع من قضية إيمانية بلا ريب، ولذلك فهو يمد ويجزر، يطفو علىٰ السطح ويغوص في العمق… تماما كما الإيمان يزيد وينقص.
واليوم؛ بعد أن شاهدت ذلك التسجيل المُرعِب، الذي يظهر فيه الأستاذ يتلقىٰ لكمات تلميذه دون أيِّ وقار ولا احترام، عادَ إيماني إلىٰ السطح وصار يمتد ويمتد… لأبحث عن شيء تمُدُّني به تلك النظرية، وبين أوراقي تلك وقعت عيني علىٰ الحديث النبوي: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ”.
نظرية مُتكاملة عن الأساس المؤطِّر لعلاقة المُدّرِّس بالمتعلم، وأسلوب من أساليب التربية التي لم تتحدث عنها كُتب التربية الإسلامية نفسها، ذلك هو أسلوب: التربية بالرحمة والاحترام.
والتربيةُ بالرحمة والاحترام إنَّما تقوم بالأساس علىٰ حقيقةٍ مفادها أنَّ كُلاًّ من طَرَفَيْ العملية التربوية إنسانا؛ يجب أن تُحترم إنسانيته. وأنَّ إحدىٰ الطَّرَفين لازال في مراحله التعليمية الأولىٰ يجب النظر إليه بعين الرحمة، التي قد تستدعي الشفقة كما تستدعي القسوة والعقوبة ولكنها تبقىٰ دائما في ظلِّ الرحمة. فما دام المتعلِّم في بداية مراحله التعليمية فإننا نعترف منذ البدء بما ينقصه من التجارب والخبرات والمؤهلات مما يجعله ضعيفا، نعم؛ ضعيفا وإن كان عنيفا، فكثيرا ما يكون استخدام القوة علامة بارزة من علامات ضعف فكري ووجداني.
وبإمعان النظر في الحديث الشريف، نجد أنَّ الرحمة بالصغير تَقَدَّمت الاعتراف بقَدْر العالم الجليل، وهو ما يعني ابتداء ضرورة تقديم الرحمة إن شئنا حِفْظ القدْر والاعتراف به، وإلاّ فحين تُفقد الأولىٰ فعلينا أن نتوقع دون أدنىٰ شكٍّ أن تُفقد بعدها الثانية.
وبإرجاع النظر مرةً أخرى للحديث الشريف، نجد توقير الكبير سبقَ الرحمة بالصغير، مما يُحيلنا بطريقة ما إلىٰ الأسرة التي فيها يتعرف الصغير علىٰ من يكبرونه سِنّاً، أولئك الذين يجب أن يُوَقِّر شيبتهم علماءَ كانوا بُسطاء، وهنا تبدأ الرحمة الأولىٰ بالصغير حين نُعَلِّمه القيمة التي ستمتد معه خارج الأسرة، وستشكل حلقة الوصل التي ستربط التربية في الأسرة بالتربية في فصول الدراسة ثم بالتغيير المجتمعي نحو الأفضل في نطاق المجتمع والوطن والأمة، وكما حاكمنا المُدرس في السابق، نُحاكم الأسرة الآن بالمنطق نفسه إن هي لم تقم بدورها في تنشئة صغيرها والعناية بقيمه التي سيكون بحاجة إليها.
والآن؛ أترك المجال واسعا أمام أولياء الأمور والأساتذة وكل الفاعلين التربويين، ليُسائلوا أنفسهم عن دورهم الذي يجب أن يقوموا به إزاء هذه الأوضاع في ظل ما تناولناه في ظلال هذا الحديث، وقبل أن أترك تلك الأسئلة تنزلُ علىٰ رؤوسنا كنقراتٍ مُزعِجة ومُقلقة حُيال المستقبل، أريد أن أزيد من ذلك القلق بالقول:
إنَّ التربية بالرحمة والاحترام أصبحت في ظل الواقع المعاصر ضرورةَ حياة وقضية مصير فكيف بالمستقبل؟ هي ضرورة حياة لأن الإنسان ليس كباقي الكائنات، أصلُه يرتد إلىٰ آدم الذي نفخ الله فيه من روحه وأمر ملائكته أن تسجد له، كما يرتد أيضا إلىٰ نسله الذين كرمهم الله تعالىٰ ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ فمثل هذه الخواص لا يمكن اعتبارها امتيازا إلا بقدر ما يمكن اعتبارها محددات تضع له المنهج وتُعَيِّن له طريقة المسلك في التربية التي يجب أن تحفظ هذا التقدير الإلهي. وهي قضية مصير لأنَّ اللاحترام المُولِّد حتما للصراع كما في الحالة هذه؛ إذا ساد وأصبح منهجا للتعامل في الممارسة التربوية، فإن ذلك سيكون مشروعا لإيجاد جيل من بني الإنسان الذين سيُفني بعضه بعضا؛ ليكون الجميع في نهاية المطاف خاسرا.
وأخيراً؛ كم هو جَمِيلٌ أن تَجِدّ في شيء يَعتبره الآخرُ ماضيا لا يأتي إلاَّ بالرِّجعية والتخلف ما يُثْبِتُ عكس ذلك، ويُقَدِّمُ رؤيةً راقية ومتنورة جِدّاً حول موضوع أصبحت الأطروحات المعاصرة مُحْرَجَةً حُيالَه، ولهذا كم أرجو أن نجدِّدَ إيماننا بنظريتنا التربوية الإسلامية ليتجدد معها إيماننا بهذا الجيل وجيل الذين لم يلدوا بعد ونحيي إيماننا بقُدرتهم علىٰ صناعة واقعٍ أجمل وعالمٍ أفضل.