وفاة أستاذة أرفود: جريمة تنذر بانهيار العلاقة التربوية وتستدعي إصلاحا نسقيًّا عاجلًا

في الحاجة إلى إطلاق ميثاق وطني لحماية المدرسة وضمان الأمن التربوي

0 تعليقات 535 مُشاهدة 16 دقائق قراءة

نصُّ المقال:

اهتزّ الرَّأي العام المغربي قبل أيَّامٍ قليلة لفاجعة اعتداء تلميذٍ على أستاذته في مؤسَّسة للتكوين المهني بمدينة أرفود، واليوم نستيقظ علىٰ فاجعةٍ أكبر حيث أدَّت هذه الجريمة إلىٰ إصابة الأستاذة بجروحٍ بليغة انتهت بوفاتها فجر اليوم 13 من أبريل 2025م. في تقديري؛ لا يجب أن يمرّ الخبر مرور الكرام، ولا أن يُستقبل باعتباره حالةً منعزلة، بل يجِبُ أن يوقظ في الضمير التَّربوي والجَمعي إحساسًا متجدِّدًا بالخطر، وعلينا أن نثير من خلال أسئلةً ظلَّت معلّقة منذ سنوات حول مآلات العلاقة داخل الفضاء المدرسيِّ، وحدود ما تبقّى من هيبة المُربِّي وحُرمة المدرسة.

لا أخفيكم أنَّ هذا الحدث المفجع فتح أمامي أبواب التَّأمُّل في راهن المدرسة المغربية، وفتح جرحًا عميقًا صاحبني أيَّام اشتغالي بالتَّعليم الثَّانوي، وأعاد طرح أسئلة كبيرة أثقلت رأسي منذ ذلك الحين: هل فقدت المؤسَّسة قُدرتها علىٰ احتضان جميع مكوناتها ضمن علاقة احترام متبادل؟ هل تحوّلت من فضاء التَّربية والتَّعليم والتَّكوين والتَّوجيه إلىٰ ساحة تصفية حسابات وانفجاراتٍ مكبوتة؟ واليوم؛ ألا يصحُّ أن نقول إنَّ ما وقع في أرفود ليس سوىٰ قمَّة جبلٍ جليديٍّ لواقع يعجّ بالتَّوتُّرات والانهيارات أغلبُها متعلِّقٌ برمزية المؤسَّسات التعليميَّة ومَن فيها؟

أعتقدُ أنّ هذا الحدَث يُجبرنا -بدءًا من المسؤولين إلىٰ الأسر، ومن  الفاعلين التَّربويِّين إلىٰ الباحثين في الشَّأن التَّربويِّ – علىٰ الاعتراف بأنَّ العُنف المدرسيَّ لم يعد مجرَّد ظاهرة سلوكيَّة عابرة، بل غدا مؤشرًا علىٰ بداية انهيار المعنىٰ التَّربويّ نفسه، بما في ذلك انهيار شروط الحماية النَّفسيَّة والمؤسَّسيَّة لأطر التَّعليم.

أستسمح الأفاضل في أن أنطلق في هذا المقال من قناعةٍ أصبحت راسخةً لديّ، بأنَّ الحلول الظرفيَّة لم تعُد تُجدي، وأن التَّنديد وحدَه لا يحقِّقُ المُبتغىٰ، ولا يجيب عن الأسئلة العميقة التي يفرضها واقع العُنف في الوسطِ المدرسيَّ ومُحيطِه. لذلك؛ دعوني أقدِّم لكم قراءة تحليليَّة من خمسة محاور مترابطة، لا لأجلِ التَّنظير وإنَّما من أجل توجيه مشاعرنا إلىٰ مشاريع ذات بُعد إصلاحيٍّ، ستبدأ المقالةُ بتوصيف الظَّاهرة كما رَصَدتها بعض التَّقارير الرَّسميَّة، ثم ستفكِّك أسبابَها البِنيويَّة، عارضةً خريطة الجهات التي يفترض تدخلُّها لحلِّ هذه الأزمة، ثُمَّ ستنتقل إلىٰ اقتراح مداخل أحسبُها أكثر واقعيَّة للحدِّ من ظاهرة العنف، وصولًا إلىٰ اقتراح رؤيةٍ تربوية إصلاحيَّة تنظر إلىٰ المدرسة كمجالٍ يجب إعادة بنائه علىٰ أُسس الإنصاف والاعتراف والكرامة.

أُذكِّر أنَّ الدَّافعَ لهذا الطَّرح هو يتجاوز ردود الفعل الانفعاليَّة، إلىٰ إصلاحٍ نسقيّ عميقٍ يضمن سلامة الفعل التربوي، وكرامة القائمين عليه. فكيف يُمكننا أن نعيد بناءَ المدرسة باعتبارها فضاءً آمنًا؟ وما هي ركائز الإصلاح لننجح في حماية صورة المعلّم من التَّآكل والاعتداء؟

فجّر حادثُ وفاة أستاذة أرفود نقاشًا وطنيًّا حول تصاعد العنف في الوسط المدرس ومحيطه، وأعاد إلىٰ الواجهة مخاوفَ قديمة حول أمن الأطر التَّربويَّة داخل المؤسسات التَّعليمية المغربية وخارجها. لم تعد مثل هذه الواقعة حدثًا عابرًا، بل أصبحت مؤشِّرًا دالًّا علىٰ تدهور العلاقة التَّربوية، وانهيار منظومة الحماية داخل المدرسة. فحين يُعتدىٰ علىٰ أستاذة بالسِّلاح الأبيض من طرف تلميذٍ، ثم تلفظ أنفاسها الأخيرة في قسم الإنعاش، فإننا هٰهنا لا نواجه جريمة فقط، بل نواجه أزمة تربوية بنيوية تستدعي قراءةً أعمق.

ومِن المُفارقات -حقًّا- أنَّ ناقوس خطر العُنف المدرسيِّ قد دُقَّ منذ أمدٍ في تقارير رسميَّة، أبرزها تقرير صادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين بشراكة مع منظمة اليونيسف سنة 2023 (يمكن تحميله من هنا)، رصَد هذا التَّقرير مؤشِّرات مقلقة حول تفشي العنف المدرسي في المغرب، خاصة في التعليم الثانوي. واعتمد التقرير علىٰ عيِّنة من 287 مؤسسة تعليميَّة موزَّعة علىٰ مختلف الجهات، وجاءت نتائجه كالآتي:

  • صرّح أكثر من 25% من التلاميذ بتعرضهم للعنف الجسدي (الضرب، الدفع).
  • أقر نحو 30% من التلاميذ بوجود تحرش داخل المؤسسات التعليمية، بما فيه التحرش الجنسي.
  • تجاوزت نسب العنف اللفظي حدود 35%، وتشمل الشتائم، السخرية، الإذلال.
  • بلغت نسبة التلاميذ الذين تعرّضوا لـ العنف الرقمي في المدرسة (نشر صور، تشهير إلكتروني) أكثر من 8%.

لم تتوقَّف الدِّراسة عند تحديد أشكال العنف المدرسي فقط، بل سلَّطت الضوء أيضًا علىٰ طبيعة مُرتكبيه؛ حيث أظهرت النَّتائج أنَّ مُرتكبي العنف داخل المدرسة ليسوا فقط زملاء الدراسة، بل يشملون أحيانًا الأساتذة، والإداريين، ومحيط المدرسة الخارجي، بل وحتَّىٰ بعض أولياء الأمور.

إنَّ الإشارة التي يجب أن نلتقطها جميعًا تتلخص في أنَّ هذه المعطيات تُشير إلىٰ أنَّ العنف المدرسي لا ينبع من طرف واحد، بل يُنتَج ضمن بيئة متوترة ومتشابكة العلاقات. وأنَّ رقعة العنف مُتَّسعة، وبنيته معقَّدة، الأمر الذي يُضعف الفرضيات التي تحصره في سلوكيات فرديَّة معزولة.

ولعلَّ قراءة المؤشِّرات الحالية المُحيَّنة -إن وُجدت- ستفرض علىٰ الفاعلين التربويين والسياسيين الاعتراف بأننا أمام بنية إنتاج للعنف داخل الفضاء المدرسي، وأن أي إصلاح تربوي لا يُدرج هذه الإشكاليَّة ضمن أولوياته سيظل قاصرًا عن تحقيق الأمان التربوي.

أقول هذا لأنَّ قراءتي للمعطيات السَّالفة الذِّكر تؤكد لي أنَّنا أمام منظومةٍ يُنتَج العنف فيها بشكل تراكميٍّ ومستمر، وفي ظل غياب استراتيجيات وقائية فعّالة، وانعدام تدخل تربوي ممنهج، نخشىٰ أن تتراكم مثل هذه المؤشرات أكثر فتضعنا أمام حقيقة قاسية مفادُها: المدرسة لم تعد دائمًا فضاءً آمنًا، لا للمتعلم ولا للأستاذ، وهو ما ينذر بانهيار وظيفتها التكوينية والاجتماعية.

من هنا تبرز ضرورة الانتقال من مرحلة رصد المؤشرات إلى مرحلة تحليل الأسباب التربوية والاجتماعية للعنف ضد الأساتذة.

تُظهِر المعطيات الميدانية أنَّ تصاعد العنف ضد الأساتذة في المؤسسات التعليمية المغربية ليس مجرد سلوك طارئٍ أو رد فعل فردي معزول، بل هو نتيجة تراكُميَّة لمجموعة من الأسباب العميقة والمتشابكة، تتوزع بين البِنية التَّربويَّة والنَّفسية والاجتماعية والقيمية. وفي تقديري؛ لا يمكن فهم ما جرىٰ في واقعة أرفود -ولا غيرها من الوقائع المتكرِّرة- دون وضعه في سياق أزمةٍ أوسع تعيشها المدرسة المغربية، والتي تتجلّىٰ في تفكُّك العلاقة بين المتعلِّم والمدرّس، وانهيار رمزية الفعل التربوي داخل المجتمع.

1- خلل في العلاقة التربوية وفقدان الانضباط البيداغوجي

بدأت المدرسة تفقد توازنها التَّربويّ مع التحوُّلات المتسارعة في العلاقة بين السُّلطة التعليمية والجيل الجديد الناشئ. حيث تراجعت سلطة المعلم داخل الفصل، لا بفعل تطوير بيداغوجيٍّ طبيعي، بل تحت ضغط انفجار تمثلات جديدة للاتجاهات الحقوقيَّة التي غفلت عن التَّأطير القيمي الموازِن. وهو ما أدَّىٰ إلىٰ فراغ سلطوي تربوي، فالدَّعوة إلىٰ تجاوز السُّلطة التَّقليديَّة للمدرِّس لم تطرح بديلًا لسلطة تربويَّة قائمة علىٰ الكفاءة والاعتراف والاحترام… بل غيَّبت مفهوم السُّلطة البديلة (التي لا وجود لأيَّ فعلٍ تربويٍّ بدونها) فسادت الفوضىٰ وانتِهكت الحقوق.

ومن زاوية بيداغوجيَّة صِرفة، أدَّىٰ استجلاب النظريَّات الحديثة دون إعدادٍ جيِّدٍ للكفاءات التي ستُنزِّلها إلىٰ تفاقم أزمةِ العُنف، فعلىٰ سبيل المثال لا الحصر، فإنَّ ما يسمى بـالقيادة التربوية الصفية ظلَّ مفهومًا نظريًّا مشوَّشًا ومشوِّشًا، مع العلم أنَّ النَّظريات الحديثة لا يُمكن تفعيلها في جوٍّ مُناسبٍ دون هذه القيادة التي تُمكّن المعلم من ضبط إيقاع العلاقة داخل القسم، وتوجيه التفاعل نحو التعلم والاحترام. الخلاصة أنَّه عندما يغيب مثل هذا الضَّبط التَّربوي، تُفتح الأبواب علىٰ مصراعيها للسُّلوك العدواني، ويصبح العنف ضد المعلمين أحد تجليات هذا الانفلات.

2- هشاشة الصحة النفسية للمتعلمين وغياب الرعاية السيكولوجي

التلميذ الذي لا يَشعر بالأمان النَّفسيّ والاجتماعي داخل مدرسته أكثر قابلية لإنتاج السلوك العنيف. ولهذا تظل العناية الصحة النفسية في الوسط المدرسي محدِّدًا حاسما في وجود العنف المدرسي وغيابه، سواء علىٰ مستوىٰ الأطر المختصة، أو آليات اليقظة والوساطة، أو حتّىٰ علىٰ صعيد البرامج الوقائية.

في هذا السياق؛ يمكن من خلال ملاحظات صفيَّة رصدُ ظواهر تحيل إلىٰ ما يعانيه عدد كبير من المتعلمين من اضطرابات نفسية كامنة مثل القلق، الاكتئاب، الشعور بالإقصاء، ضعف الانتماء… ومثل هذه العوامل قد لا تُرصَد، لكنَّها تُترجم إلىٰ عنف تجاه الذات أو تجاه المحيط، خاصة في غياب أي دعم نفسي مدرسي فعّال.

3- تفكك الرابط الأسري والاجتماعي

يُعدّ التفكك الأسري أحد أبرز العوامل المؤدية إلىٰ فقدان التوازن النفسي والسلوكي لدىٰ المتعلم. فحين يغيب التّواصل داخل الأسرة، أو حين تتحول إلىٰ فضاء للتوتر والعنف، فإنَّ المتعلم يعيد إنتاج تلك التجربة داخل المدرسة، ومن خلال تجربتي الشَّخصية فإنَّ نسبة كبيرة من التلاميذ المتورطين في حوادث عنف وجدتهم يعانون من غياب أحد الوالدين، أو من غياب الرقابة التَّربوية، أو من هشاشة مادية واجتماعية مزمنة.

4- تآكل صورة المعلم في المخيال الجمعي

لن نختلف إن قلت إنَّ صورة المعلم في المجتمع المغربي لم تعد تتمتع بالرَّمزية التي كانت تقيه من العنف المعنوي والمادي، وأسهمت عدة عوامل تآكل صورة المعلِّم في المجتمع، منها التناول الإعلامي السَّاخر أو التحقيريّ، وكذلك ضعف الاعتراف السياسي والاجتماعي بمكانة المعلم، وأيضًا تنامي خطاب شعبوي يتعامل مع الأستاذ كموظف بصورةٍ تسطيحيَّة ومسيئة لا كحامل رسالة.

حين تسقط صورة المعلم من مقام الاحترام إلى موقع الإهانة، يصبح الاعتداء عليه أمرًا «مُفسَّرًا» لدىٰ بعض التلاميذ، خصوصًا في غياب أي مُرافعة ثقافية وقانونية تحمي المعلم وتعيد له اعتباره.

5- التأثير السلبي لمنصات التواصل والفراغ الرقمي التربوي

لا يمكن إغفال أثر وسائل التَّواصل الاجتماعي في تضخيم موجات السخرية من الأطر التربوية، وفي تحقير أدوارهم التكوينية، هذا والمدرسة لم تستطع أن تواكب هذا التحول الرقمي بإجراءات تربوية مناسبة، مما جعل بين التعليم وبين العالم الرقمي فجوةً في التَّلقي القيمي لدىٰ الناشئة، فكيف تعاملت المدرسة المغربية مثلًا مع بعض الممارسات التي ظهرت في منصات التواصل الاجتماعي والتي تُحيل إلىٰ واقعٍ صار فيه «الشهير» أو «المؤثِّر» أقوىٰ من «القدوة»، وصار فيه تحقيق الانتشار الرَّقمي أهم من السلوك التربوي…

المؤسف أنَّ بعض تلك المُمارسات تأتي من متعلِّمين وبعضها من الفاعلين التربويِّين، وقد أتاحت تلك الممارسات الفرصة أمام المنصات الرقمية لتكون مُسهمةً في ترسيخ ثقافة العنف اللَّفظي والرَّمزي، وفي تغييب الحدود بين ما هو تربوي وما هو استعراضي، وهو ما يُضعف من قدرة المؤسَّسة علىٰ ضبط سلوك المتعلم أو مساءلته أخلاقيًا.

تطرح ظاهرة العنف في المدارس المغربية -خاصة حين تستهدف الأطر التربوية- سؤالًا محوريًا يتجاوز التَّوصيف إلىٰ تحديد الأدوار والمسؤوليات: من يتحمل مسؤولية ما يقع؟ ومن بيده سلطة التَّدخل للحد من هذا النزيف التربوي؟ وهٰهنا علين أن نتجاوز منطق المحاسبة الفردية أو الإدارية إلىٰ بناء وعي جَمعيٍّ بأهمية توزيع الأدوار بوضوح داخل المنظومة التربوية، وبين الفاعلين المتدخلين فيها، والمتدخلين من خارجها.

فلا يمكن الحديث عن أي مشروع للحد من العنف ضد الأساتذة دون تحديد دقيق للجهات المسؤولة عن الوقاية، والتأطير، والاستجابة، والتحصين.

1- الدولة والسلطات التشريعية: الإطار القانوني الواجب التفعيل

تحتاج المدرسة المغربية إلىٰ أجهزة الدولة -بصفتها الراعية للمنظومة التربوية-  لتضع إطارًا قانونيًّا صريحا يحمي نساء ورجال التعليم علىٰ وجه الخصوص، سواءٌ داخل الفضاء المدرسي أو خارجه، رغم وجود مقتضيات قانونية تعاقب الاعتداء على موظفي الدولة أثناء تأدية مهامهم، إلا أن الحوادث المتكررة في الوسط المدرسي ومحيطها تشير إلىٰ الحاجة لهذا التخصيص.

يتطلب الأمر سنَّ قانون خاص بحماية الأطر التربوية، يُصنّف المدرسة فضاءً مَحميًا، ويُشدِّد العقوبات في حالات الاعتداء الجسدي أو الرمزي. كما يُنتظر من البرلمان المغربي أن يتفاعل مع الظاهرة بجدية تشريعية، تترجم المطالب النَّقابية والتربوية والمجتمعية والحقوقية إلىٰ سياسات مُؤطرة.

2- وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة: السياسات البيداغوجية والتنظيمية

تملك الوزارة الوصية السلطة التنفيذية والإدارية لتفعيل إجراءات استباقية ووقائية لمواجهة العنف داخل المؤسسات التعليمية. من واجبها:

  • إعادة النظر في آليات ضبط النظام الداخلي المدرسي.
  • تكوين الأطر الإدارية والتربوية في تقنيات الوقاية والتدخل في الأزمات.
  • تخصيص موارد بشرية دائمة للوساطة والدعم النفسي داخل المؤسسات، خاصة في المناطق الهشة.

كما ينبغي إدراج مؤشر «السلامة التربوية» ضمن أدوات تقييم جودة المؤسسات، ليصبح موضوع الحماية من العنف جزءًا من بنية الحُكم التربوي، لا تفصيلاً جانبيًا.

3- الأسرة: الجبهة الأولىٰ في التربية والوقاية

تُعدّ الأسرة شريكًا مباشرًا في الوقاية من العنف، سواء من خلال التربية اليومية، أو عبر التفاعل المستمر مع المدرسة. ومع ذلك، هناك ضعف في انخراط كثير من الأسر في الحياة المدرسية، سواء بفعل الانشغال أو ضعف الوعي بأهمية التواصل المدرسي.

وتحتاج الأسر إلىٰ مواكبة تربوية وتكوينية، تُعيد بناء جسور الثقة مع المؤسسة التعليمية، وتدفع نحو تأطير سلوك أبنائها، وتقدير دور المعلم، وعدم التساهل مع سلوكيات التمرد أو الإهانة تجاه الأطر التربوية.

4- الإعلام والمجتمع المدني: صناعة الوعي العام وتغيير التمثلات

لوسائل الإعلام، ومعها جمعيات المجتمع المدني، دورٌ أساسيٌّ في تشكيل تمثلات المجتمع حول المدرسة والمعلم، فحين تكرّس بعض البرامج والمنتجات الفنية صورةً ساخرة أو مُحطِّمة للأستاذ، فإنها تسهم – بشكل غير مباشر- في شرعنة العنف الرمزي ضده.

وتحتاج هذه الفضاءات إلىٰ حملات مضادة تُبرز قيمة التعليم، ورساليَّة المعلم، وتأثيره في بناء الأمة، بدل تصويره في صورة الكائن المتذمّر أو العاجز. ويمكن للجمعيات التربوية أن تُطلق مبادرات تواصلية وتوعوية في المؤسَّسات، تعمل علىٰ تقوية ثقافة الاحترام والمواطنة.

الجامعات ومراكز البحث: فهم الظاهرة وتطوير آليات المواكبة

لا يمكن مواجهة العنف المدرسي بالحدس أو الانفعال، بل يجب أن يُستند إلىٰ دراسات علمية ميدانية تُحلِّل السياقات المحلية، وتُنتج أدوات تدخُّل مُكيّفة. من هنا؛ تُصبح الجامعات المغربية ومراكز البحث التربوي طرفًا رئيسًا في اقتراح الحلول. وخصوصا كلية التربية والمدارس العليا للأساتذة والمدارس العليا للتربية والتكوين التي ينتظر منها أن تُدرِج موضوعات مثل «علم نفس العنف»، و«التربية الوقائية»، و«إدارة الأزمات التربوية» في برامجها، وأن تُطلق شراكات مع المؤسسات التعليمية لتجريب نماذج جديدة في الوقاية والدعم.

يُجمع الباحثون في قضايا التربية علىٰ أن مواجهة ظاهرة العنف في الوسط المدرسي تتطلب ما هو أكثر من بيانات التَّنديد وردود الأفعال المؤقَّتة. فالأمن التَّربوي لا يتحقق بالشِّعارات، بل ببناء بيئة مدرسيَّة تؤسس للثقة والكرامة والانتماء. ومن هذا المنطلق؛ لا بد من مقاربات عملية متكاملة، تربط بين الوقاية والتدخل والمواكبة، وتُعيد الاعتبار للفعل التربوي باعتباره عملية إنسانية بالدرجة الأولى.

وفيما يلي مجموعة من الحلول والمداخل التربوية الممكنة، أحسبُها قابلة للتنزيل في السياق المغربي، مع مراعاة الطابع الواقعي والنسقي للتدخل:

1- إعادة بناء العلاقة التربوية:

يعتمد نجاح أي عملية تعليمية علىٰ جودة العلاقة بين المتعلم والمربي. فحين تقوم هذه العلاقة علىٰ الاحترام المتبادل، والاعتراف بكرامة الطرفين، (كتبت مقالا يحمل ذات المضامين يمكن الاطلاع عليه هنا) ينخفض التوتر، ويزدهر التعلم، وفي هذا السياق اذكر علىٰ سبيل المثال فقط:

  • نحتاج إلىٰ تدريب المدرسين علىٰ المقاربة العلائقيَّة للتربية، من خلال ورشات التواصل التربوي، وإدارة الصِّراع، والاستماع الفعّال.
  • نحتاج إلى إدماج مكون أو مجزوءة تُشبه موضوعات الذكاء العاطفي فيكون اسمها مثلا «الذكاء العاطفي التربوي» داخل برامج إعداد الأساتذة في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين والمدارس العليا.
  • نحتاج إلىٰ إحداث نظام «المرشد التربوي الداخلي» تتلخص مهمته في متابعة حالات التوتر قبل أن تنفجر.

2- إرساء خلايا يقظة تربوية ونفسية داخل المؤسسات

تحتاج كُلُّ مؤسسة تعليمية إلىٰ الرصد المبكر للسلوكيات المنذرة بوقوع حالات العنف وما شابهها، لذلك؛ يُعد إحداث خلايا يقظة مدرسية أمرًا ضروريًّا.

  • تتكوّن هذه الخلايا من مدير المؤسسة، أستاذ(ة) مشرف(ة)، مستشار(ة) في التوجيه، وأخصائي(ة) نفسي إن وُجد.
  • تعمل هذه الخلايا على جمع المعلومات، والتدخل الاستباقي، وتوجيه الحالات إلىٰ الدعم المناسب.
  • يُستحسن اعتماد سجل داخلي لتوثيق حالات العنف اللفظي أو الرمزي أو الجسدي.

3- تقوية المناهج التربوية بقيم التربية الإسلامية والتربية علىٰ المواطنة والمسؤولية

لا ينبغي أن تقتصر التربية على القيم علىٰ دروس في التربية الإسلامية أو الاجتماعيات. بل يجب إدماجها في جميع المواد، عبر المواقف التعليمية المناسبة، ولهذا يُمكن:

  • تفعيل مشاريع «القسم القيمي» أو «الأنشطة ذات البُعد المجتمعي» التي يُشرف عليها الأساتذة، ويشارك فيها التلاميذ بحسّ مسؤول.
  • ترسيخ مفاهيم الاحترام، التسامح، التعاون، واللا عنف في محتويات اللغات والعلوم والأنشطة اللاصفيَّة.
  • إدراج مثلا مكونات من قبيل «حل النزاعات» كجزء من التربية المواطنة.

4- تحصين صورة المعلم قانونيًا ورمزيًا

كما وسبق وأن أشرنا تتعرض صورة الأستاذ في المغرب لتآكل ممنهج، ينعكس علىٰ سلطته التربوية داخل الفصل. ومن هنا:

  • ينبغي إصدار قانون خاص بـحماية العاملين في مجال التربية والتكوين، يضمن حقوقهم داخل المؤسسات وخارجها.
  • ضرورة إشراك النقابات في إعداد مسطرة موحدة للتبليغ والتقاضي في حال الاعتداء.
  • إطلاق حملة وطنية لإعادة الاعتبار للمدرّس، عبر الإعلام العمومي، ومناهج التعليم، والخطاب الرسمي.

5- إدماج التلميذ كفاعل في بيئته التعليمية

في سياق الإصلاح التربوي الحديث حيث لم يعد التلميذ مجرد «عنصر قابل للتَّشكيل»؛ لا بد لنا من أن نجعل المتعلم يشعر بالمسؤولية، والانتماء، وفي هذا الصدد يمكن:

  • إنشاء مجالس تلاميذية ذات صلاحيات استشارية في قضايا الحياة المدرسية.
  • إشراك المتعلمين في أنشطة الوساطة وحل الخلافات، عبر تقنيات «الوساطة التلاميذية».
  • إعادة النظر في مبدإ «العقوبات التربوية البديلة»، التي تُربّي ولا تكافئ أو تُقصي.

6- الاعتراف بالصحة النفسية كعنصر بنيوي في المدرسة

لا يُعقل أن تُواجه المؤسسات التعليمية حالات نفسية معقَّدة دون وجود أطُر متخصصة أو أدوات مهنية مساعدة. ومن هنا اشير إلىٰ:

  • ضرورة التعاقد مع أخصائيين نفسيين علىٰ مستوى المديريات، مع ضمان حضور دوري داخل المؤسسات.
  • تنظيم حملات تحسيسية حول التعب، الاكتئاب، الإدمان، القلق… لفائدة المتعلمين والأساتذة على حد سواء.
  • إدماج وحدات «التربية النفسية» ضمن الأنشطة الداعمة.

7- مواكبة أسرية ومجتمعية للوقاية من العنف المدرسي

تحتاج الأسرة إلىٰ أدوات تربوية تساعدها علىٰ بناء تواصل فعّال مع أبنائها، وربطهم بالمدرسة لا تكريس انعزالهم عنها، ويمكن:

  • تنظيم دورات تدريبية لأولياء الأمور حول «الاستماع للأطفال»، «الوقاية من السلوك العدواني»، «مرافقة المراهق».
  • إشراك الأسر في المشاريع المدرسية، والأنشطة الموازية، وتعزيز حضورها في الحياة المدرسية.
  • تحفيز جمعيات الآباء للقيام بدورها في الوساطة والدعم والمرافعة.

لا يكفي أن نطرح حلولًا مجزأة لمواجهة العنف المدرسي، ولا أن ننتظر تغيّرات تدريجية عبر البرامج القطاعية وحدها، بل نحتاج إلى إعادة صياغة فلسفة التدخل انطلاقًا من رؤية نسقية تنظر إلى المدرسة باعتبارها وحدة حياتية شاملة، تتفاعل فيها أبعاد معرفية، وجدانية، قانونية، واجتماعية.

لقد أظهرت الحوادث المؤلمة، كحادثة وفاة أستاذة أرفود، أن الخلل لا يكمن فقط في غياب العقاب أو ضعف الحماية، بل في غياب تصور متكامل لوظيفة المدرسة، ولمعنىٰ الفعل التربوي في السياق المغربي.

انطلاقًا من ذلك، نقترح هنا رؤيةً تربوية إصلاحية تقوم على خمسة مداخل مترابطة:

1- التحول من المقاربة العقابية إلى المقاربة الوقائية الترميمية

لا يمكن معالجة العنف بالعقاب وحده. هذا ما أثبتته التجارب الدولية، وأكدته أدبيات علم النفس التربوي. فحين نركّز على «رد الفعل» دون بناء آليات استباقية أو بدائل ترميمية، فإننا نُكرّس دورة العنف بدل كسرها، ولهذا ندعو في هذه الرؤية إلىٰ:

  • العدالة التصالحية داخل المؤسسات التعليمية، حيث يُمنَح التلميذ المعتدي فرصة لإصلاح أثر فعله، وفهم تبعاته، ضمن إطار تربوي لا انتقامي.
  • إنشاء «مراكز دعم ترميمي» داخل المديريات، ترافق المؤسسات في حالات الأزمات.

2- إعادة تعريف وظيفة المدرسة كمجال للتماسك الاجتماعي

لا ينبغي أن تُختزل المدرسة في دورها التدريسي الصرف، بل يجب أن تُبنى كمجال للتنشئة المشتركة، والتربية على العيش المشترك، وإعادة دمج الفئات الهشّة في المشروع المجتمعي، ويقتضي هذا أن:

  • تُستثمر المؤسسة في بناء رأس مال اجتماعي تربوي، عبر الأندية، والأنشطة المندمجة، والمشاركة التلاميذية.
  • يُعترف للمؤسسة بدورها في تحقيق العدالة التربوية، التي تضمن للمهمشين مسارًا للنجاح والاندماج.

3- هندسة بيئة مدرسية قائمة على الاعتراف والكرامة

حين يفقد الفاعلون التربويون الشعور بالكرامة داخل فضاء اشتغالهم، فإن أي محاولة للإصلاح تصطدم بجدار اللامبالاة أو السخط المكبوت، وفي هذا السياق يجب:

  • أن تُبنىٰ المدرسة المغربية على أسس الاعتراف المتبادل بين الأطراف: المتعلم، المدرس، الأسرة، الإدارة.
  • تعميم ثقافة «المواكبة بدل المراقبة»، و«المرافقة بدل الإدانة»، واعتبار كل عضو في المدرسة فاعلًا لا مُتهَما محتملًا.

4- إدماج التربية النفسية والاجتماعية في صلب البناء البيداغوجي

لا ينفصل النجاح الدراسي عن السلامة النفسية والاجتماعية، لذلك، فإنَّ المدرسة التي تُغفل هذا البعد تزرع بذور العنف دون وعي، ولذلك علىٰ البناء البيداغوجي أن:

  • يخصص «حصص التربية النفسية» داخل الجداول الدراسية، بإشراف أطر مؤهلة.
  • يدمج مؤشرات «السلامة العاطفية» في تقييم المؤسسات التعليمية.

5- إطلاق ميثاق وطني لحماية المدرسة وضمان الأمن التربوي

تقتضي المرحلة الحالية اعتماد إطار مرجعي يُلزم جميع المتدخلين بمسؤولياتهم في حماية الفضاء المدرسي من التهديدات النفسية والجسدية، وأقترح أن

  • يتضمن هذا الميثاق بنودًا صريحة حول حقوق المعلم في الحماية والدعم والتقدير، وحقوق التلميذ في الحماية والرعاية والمواكبة.
  • يُوقع هذا الميثاق من قِبل الدولة، النقابات، جمعيات أولياء الأمور، وممثلين عن المجتمع المدني، ليُصبح وثيقة مُوجِّهة للسياسات التربوية.

أرغمتنا حادثة وفاة أستاذة أرفود، بكل ما حملته من وجعٍ، على التَّوقُّف طويلًا أمام واقع المدرسة المغربية. فالواقعة لم تطرح مجرد تساؤلات حول الأسباب المباشرة، بل دفعتنا إلىٰ مساءلةٍ أعمق: ماذا يعني أن يُعتدىٰ على أستاذة تنتمي للحرم التربوي؟ وماذا تبقّى لنا من صورة المعلم، إذا ما تآكلت في وعي المتعلم، وفي تمثلات الأسرة، وفي خطابات المجتمع؟

لقد حلّلنا في هذا المقال أبعاد العنف في المؤسسات التعليمية من خلال محاور مترابطة: فانطلقنا من توصيف دقيق للظاهرة، ثم فكَّكنا بنيتها النفسية والاجتماعية والتربوية، وحددنا خريطة المتدخلين، واقترحنا حلولًا واقعية -حسب رؤيتنا- تتوزع بين العلاقة البيداغوجية، الدعم النفسي، إعادة الاعتبار، والمشاركة التلاميذية، وصولًا إلىٰ عرض رؤيةٍ نسقية لإعادة بناء المدرسة علىٰ أساس الكرامة والاعتراف والوقاية.

ولكن؛ كل هذه المحاور، بكل ما تحمله، ستظل معلَّقة ما لم:

  • تُطلق مؤسَّسات الدولة إصلاحًا شجاعًا وعادلًا لحماية كرامة المعلم.
  • تُدرج وزارة التربية مؤشر الأمان التربوي ضمن جودة الأداء المدرسي.
  • تُعِد الأسر النظر في أدوارها ومسؤولياتها داخل المشروع التربوي لأبنائها.
  • يُجدد الإعلام خطابه تجاه المدرسة، ويكفّ عن تسليع الإهانة، وتجريف الرمزية.

وبكلِّ أسفٍ أختم بالقول: لا تموت الأستاذة (الأستاذ) فقط حين تتوقف الأعضاء عن العمل، بل تموت (ويموت) يومًا بعد يوم في كل قسم يُهان فيه المعلم، ويُفرغ فيه الفعل التربوي من روحه. لذلك؛ فإنَّ حماية المدرسة ليست شأناً تربويًّا فقط، بل قضية مجتمعية وقضية ضميرٍ وإنسانية.

فلنُحسن الإصغاء لنداء هذه الحادثة قبل أن تُضاف إلى أرشيف النسيان. فلنُعد للمدرسة المغربية رسالتها، وللمعلم احترامه، وللمتعلم بيئته الإنسانية، ولنُعلن بكل وضوح: الكرامة التربوية خط أحمر، والعنف التربوي خطر بنيوي لا يُعالَج بالمسكنات.

الكاتب في سطور:

أترك تعليقًا

فضيلة الدكتور عبد الجليل البكوري، من مواليد مدينة طنجة بالمملكة المغربية، أستاذ محاضر بجامعة مولاي اسماعيل – المدرسة العليا للأساتذة بمكناس. حاصل على الدكتوراه في علوم التربية والدراسات الإسلامية.

للتواصل

tawasol@elbakouri.ma

0679201001 (212+)

صندوق بريد 4329, الإدريسية, طنجة, المملكة المغربية

طنجة, المملكة المغربية.

جميع الحقوق محفوظة بموجب قانون الملكية الفكرية © 2025

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00